يبدو أن أطوار ما سمي ب"الربيع العربي" لم تكتمل بعد ولا تزال امتدادات الحراك الشعبي ومخاضاته وانعكاساته وتبعاته تطارد أنظمة اعتبرت نفسها تمتلك أسباب المناعة ضد "شرورها" فيما تشهد الأحزاب المتأسلمة الممسكة بالحكم على أنقاض الرؤساء المطاح بهم مقاومات بطولية تهدف إلى تطبيق الشعارات الديمقراطية التي صدحت بها حناجر الملايين من المواطنين والمواطنات في كل أرجاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فما نعاينه اليوم، بالموازاة مع ذلك، هو اتساع رقعة التحركات الجماهيرية لتشمل مدن تركيا وكذا إطلالة "التغيير" داخل بلاط العائلة الحاكمة بقطر يوم أضحت الشيخة موزة متخصصة في وضع قشور الموز تحت أقدام أمرائها وتحولت الدولة الأردنية إلى محمية أمريكية بامتياز واستمرار الاحتقان ببلدان أخرى من شبه الجزيرة المستعربة مثل البحرين والسعودية ... ولن تنفع، في هذا الصدد، الطريقة الانتقائية التي تتعامل بها قناة "الجزيرة" مع هذه الأحداث بتجاهلها وطمسها والسكوت على مراميها وأهدافها. فالواقع عنيد ولن ينجو من تأثيرات الانتفاضات الجماهيرية المسترسلة إلا المتوفرون على إرادة سياسية صلبة وصادقة من أجل إرساء دعائم الديمقراطية في أوطانهم.أ وقد برهنت التيارات المتأسلمة الحاكمة، بشكل عام، عن انتهازية سياسية صريحة ومخجلة ما دامت قد اتخذت مواقع المتفرجين بل وتواطأت مع الأنظمة في عز الحراك الشعبي واستغلت استغلالا شنيعا عدم توفر الحركات الاحتجاجية على قيادات موحدة وعدم تنظيمها تنظيما محكما لتدخل غمار الانتخابات التشريعية المقامة اضطراريا بفعل الضغط الشعبي. وانتهى الأمر بفوزها "الساحق" في تلك الانتخابات مستعينة بتنظيمها "العسكري" ومستفيدة كذلك من أصوات غير المحسوبين على تياراتهم الذين صوتوا لفائدتهم لقطع الطريق على فلول الأنظمة المنهارة. لكنها لما وصلت إلى الحكم تعاملت مع الجماهير الشعبية التي بوأتها هذه المكانة بمنطق الناكر للجميل من خلال تجاهل كل مصالحها وطلباتها ومتمنياتها لتنصرف إلى خدمة مصالح أحزابها بمنظور حزبي ضيق لا ينسجم تماما مع الشعارات التي ناضل وضحى من أجلها ملايين المواطنين والمواطنات في ساحات الحرية على امتداد بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهذه الحالة تنطبق حد التطابق على متأسلمي مصر وتونس والمغرب بشكل خاص. وبما أنهم لم يجيدوا الحساب السياسي الناتج عن غرورهم وتضخيمهم لذواتهم وتوجههم الحزبي الضيق واستئسادهم بالقوات القمعية لإسكات أصوات معارضيهم، فقد جوبهوا بمقاومات ضارية من طرف الجماهير المنتفضة والعازمة على النضال من أجل الديمقراطية إلى أخر رمق. وإذاك، بدا للمتأسلمين أنهم ليسوا الفاعلين السياسيين الوحيدين في بلدانهم وأن الحراك الشعبي قد أطلق دينامية صيرورة لم تتجلى معالمها بوضوح بعد وهي ماضية في مخاضاتها قصد إفراز نتائجها على ضوء موازين القوى المتغيرة على الساحة السياسية في تلك البلدان. وفي هذا الصراع، ظل المتأسلمون يتشبتون بشرعية صناديق الاقتراع جاعلين منها لب الديمقراطية وأساسه إلى درجة جعلها مطابقة للانتخابات. وبذلك، فإنهم متمسكون بالحكم بالرغم مما اقترفوه من تقتيل وتنكيل وتعذيب في حق المواطنين وبالرغم من مساعيهم الحثيثة لفرض سيطرتهم على كل مناحي الحياة بإصدارهم "إعلانات رئاسية" استبدادية في جوهرها. ومع ذلك، لم تتوقف المقاومات وباتت تهدد مصيرهم السياسي في أكثر من بلد كان مسرحا ل"الربيع العربي" أو مساندا للمتأسلمين. وكما يتبين، فقد عقد الثوار العزم على استرداد الثورة من المتأسلمين الذين سرقوها بداية من مصر في انتظار ما سيأتي في الأقطار الأخرى التي اختار شبابها أن يعمم تجربة حركة تمرد المصرية.ا حالة مصر انتظر الرأي العام الدولي بفارغ الصبر ما ستؤول إليه المواجهة بين جماعة الإخوان المسلمين وثوار حركة 25 يناير والمعارضة المساندة لها يوم 30 يونيو 2013 بمناسبة الذكرى الأولى لوصول مرسي إلى رئاسة الدولة. وقد رفعت المعارضة راية التحدي في وجه الرئيس الإخواني عبر القيام بحملة واسعة ومكثفة من التوقيعات بسائر أنحاء التراب الوطني المصري للبرهنة بالأدلة الملموسة أن المصريين لم يعودوا يطيقون حكم المرشد العام للجماعة الذي يتحكم في خيوط كل ما يحاك ضد الشعب المصري وراء ظهر الرئيس مرسي الخاضع لنزوات وأهواء قائده والمطيع والمنفذ لتعليماته وأوامره المتسمة بالتقوقع على الذات والانزواء في إطار ضيق لا يتعدى مصالح حزبه المتأسلم الساعي إلى أخونة المجتمع المصري مستعملا من أجل هذا المسعى الطرق القانونية وغير القانونية دون إعارة أهمية تذكر لما يصدر عن المعارضة من انتقادات ومواقف هي بمثابة ناقوس الخطر ينبه إلى الانزلاقات الخطيرة لتصرفات وإجراءات المتأسلمين على واقع ومستقبل بلدها. ويستند هذا التيار المتأسلم إلى مسلمة رجعت تتردد كثيرا هذه الأيام مفادها أن الرئيس يحظى بالشرعية الانتخابية كما هو حال المتأسلمين في تونس والمغرب أيضا. وعليه، وجب احترام إرادة الناخبين بصرف النظر عن البطش والاستبداد والقمع والتعذيب ومحاكمة نشطاء حركة 25 يناير وقتل المناضلين ... ما دامت الكلمة الأولى والأخيرة تعود إلى صناديق الاقتراع وما تفرزه من نتائج. هنا ينحصر فهم الإخوان للديمقراطية باعتبارها وسيلة تؤمن الوصول إلى السلطة وتفتح أبواب السيطرة على المجتمع لتدجينه على مقاس المتأسلين. وما عدا ذلك من حقوق وواجبات المواطنة والعيش في ظل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فلا وجود لها في مخيلاتهم ولا تمت بصلة للديمقراطية المتطابقة في نظرهم مع الانتخابات دون أن تلزم الفائزين بأية قيود أوعقود مع الناخبين في عرفهم. وبالتالي، فإنهم في حل من أية روابط تجمعهم بناخبيهم بمجرد اعتلائهم منصات الرئاسة ومجلس الشعب وهم بناء عليه أحرار في القيام بما يشاؤون ويعتبرونه في صالح مشروعهم الهيمني على مقدرات وعقول المصريين في إطار العمل على أخونة الوطن المصري. هذه الرؤية لا تنسجم مع ما أبدعته الإنسانية في موضوع الديمقراطية وما يؤمن به ملايير البشر في جميع بقاع العالم. فالديمقراطية ليست مبايعة على بياض أو شيك على بياض وهي عبارة عن عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم. وما أن يتم الإخلال ببعض بنود هذه المعاهدة حتى تصبح غير ملزمة للشعب ولاغية بالنسبة إليه بالنظر لكون الشعب قد قرر سحب الثقة من الحاكم وعدم تمتيعه بأية شرعية لممارسة الحكم باسمه. تأسيسا على هذه القناعة، واعتمادا على ما ارتكبه الرئيس من فظاعات في حق مصر والشعب المصري معا، فإن مرسي يفتقد إلى الشرعية ولم يعد مؤهلا لتمثيل الشعب الذي لم يعد يتحمل حماقاته. وللتدليل على ذلك، انخرط المناضلون في حملة التمرد، كما سموها، لجلب التوقيعات على نطاق واسع للمطالبة بالإطاحة بالرئيس مرسي وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة. وأثمرت هذه العملية عددا هائلا من التوقيعات من مختلف الديانات والأعمار والأوساط الاجتماعية والمناطق يصل إلى أكثر من 22 مليون توقيعا. وقد كان الرهان هو جلب أعداد من التوقيعات تفوق ما حصل عليه مرسي من أصوات في الانتخابات السابقة. وقد كان للمعارضة ولنشطائها ما صمموا على تحقيقه. فبالرجوع إلى نتائج الانتخابات الرئاسية، يتضح أن حزب مرسي لم يحصل سوى على 5764952 من الأصوات في الدورة الأولى في حين وصل عدد الأصوات المحصل عليها 13230131 صوت في الدورة الثانية. مما يعني أن حوالي 8 مليون من الأصوات الباقية لا علاقة لها بالحزب وأنها صادرة عن المصوتين على مرسي لقطع الطريق على العسكري أحمد شفيق باعتباره ممثلا للنظام السابق. هذا علما بأن المتأسلين قد وعدوا سلفا عن عدم الترشح للانتخابات الرئاسية ولم يفوا بوعدهم وأنهم قد خسروا نصف الأصوات التي حصلوا عليها في الانتخابات التشريعية. مما يدل على مسار انحداري لشعبيتهم وتمثيليتهم بدءا من تلك المحطة. ومع ذلك، أرادت المعارضة أن تعطي الدليل القاطع على أفول شعبية الرئيس والمتأسلمين في آخر المطاف وأن المواطنات والمواطنين المصريين ما عادوا يثقون في كذبهم وما عادوا راضيين عن استمرار مرسي في الرئاسة. وبالرغم من ذلك، استمر المتأسلمون في غيهم وواصلوا تطبيق خطتهم القاضية بتنصيب أزلامهم، بمن فيهم أعضاء الجماعة الإسلامية الجهادية، كرؤساء للمحافظات غير عابئين باحتجاجات الجماهير المصرية التي تلازم وتناهض مختلف إجراءاتهم الرامية إلى أخونة المجتمع المصري والتي تمكنت من الإطاحة بالمحافظ السلفي الجهادي. مما يبين أن ما فجرته حركة 25 يناير من طاقات النضال وآمال محاربة الاستبداد والتطلع إلى الديمقراطية ما تزال قادرة على تعبئة المصريين لمواجهة الحكم الاستبدادي الإخواني. وبالتالي، فإن المواطنين المصريين مصرونعلى المضي بثورتهم في الاتجاه الذي رسموه لها منذ انطلاقتها في 25 يناير 2011. وقد كان يوم 30 يونيو يوما مشهودا في تاريخ مصر، حسب العديد من المراقبين، إذ تدفقت الجماهير الغفيرة المصرية إلى ساحات التحرير في كل أرجاء البلاد متجاوزة ما استطاعت حركة 25 يناير تعبئته للإطاحة بمبارك. وقدرت أعدادها بأكثر من 30 مليون من المواطنين والمواطنات. واعتبرت أكبر تظاهرات شعبية في تاريخ البشرية. وبناء عليه، قالت حركة تمرد عشية يوم 30 يونيو: "نعلن باسم الملايين الذين وقعوا على استمارات تمرد أن محمد مرسى العياط لم يعد رئيسا شرعيا للبلاد". كما أصدرت بيانا ثاني يقول : "نمهل محمد مرسى عيسى العياط لموعد أقصاه الخامسة من مساء الثلاثاء القادم الموافق 2 يوليو أن يغادر السلطة حتى تتمكن مؤسسات الدولة المصرية من الاستعداد لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة ... وإلا فان موعد الخامسة من مساء الثلاثاء يعتبر بداية الدعوة لعصيان مدني شامل من أجل تنفيذ إرادة الشعب المصري". وبعد الانحياز الواضح للجيش بجانب الجماهير المصرية المنتفضة، منح الجيش مهلة لمرسي من 48 ساعة من أجل تلبية مطالبها المتمثلة في استقالته وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة. وبعد انقضاء الفترة المحددة، أصدر الجيش بيانا يكشف فيه عن خارطة طريق المستقبل المؤسسة على تدابير متعددة أهمها تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسا مؤقتا وتشكيل حكومة كفاءات وتشكيل لجنة لإجراء تعديلات دستورية ... وبعد تقديم اليمين الدستوري من طرف الرئيس المؤقت، عين بعض مستشاريه كما عين رئيسا للوزراء ... كما تم إصدار إعلان دستوري يحدد جدولة زمنية لتحقيق مختلف الإجراءات المعلن عليها. وبعبارة أخرى، انطلقت دينامية إرساء المؤسسات الكفيلة بتحضير شروط الانتقال الديموقراطي مع الحرص على إشراك جميع المكونات الفاعلة على الساحة المصرية.ا لم يستسغ المتأسلمون الطريقة التي تمت بها عزل مرسي ووصفوها بالانقلاب على الشرعية من طرف الجيش مختزلين الديمقراطية في صناديق الاقتراع ومنح الرئيس المنتخب شيكا على بياض إلى أن تنتهي ولايته بما لها وما عليها وغاضين الطرف عن عشرات الملايين من المصريين الذين ملأوا ساحات التحرير في كل أرجاء مصر والذين لم يعودوا يطيقون مخططات الإخوان القاضية بالتحكم في مصير البلاد والعباد في أرض الكنانة. وبدل الإنصات إلى صوت العقل، انساق قياديوهم إلى خيار التصعيد والتحريض على العنف مراهنين على الدعم الأمريكي لتدويل القضية. وقد أدى هذا التوجه إلى إراقة دماء العديد من المواطنين ... وبالنظر لمحدودية تأثيره وتنديد عدة أطراف، بما فيها الولايات المتحدة، بالدعوة للعنف وممارسته فعليا ، انعكس هذا الموقف سلبا على المتأسلمين التي باتت صفوفهم محط انشقاقات متتالية مما يحكم عليهم بالعزلة على صعيد مصر.ا وبالمقابل، عبر الثوريون في حركة تمرد ومسانديهم عن عزمهم على استرداد ثورة 25 يناير المسروقة منهم وعن العمل على تصحيح مسارها في اتجاه الانتقال الديمقراطي تلبية لمطالب الشعب المصري في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.ا
حالة تونس بالرغم من التوافق الثلاثي الأطراف بين الغنوشي وبن جعفر والمرزوقي، اتضح مبكرا أن حزب النهضة تغمره نزعة الهيمنة على المجتمع التونسي بالاستعانة بخدمات السلفيين الجهاديين و"روابط حماية الثورة" التابعة للجناح المتطرف في النهضة. وقد انفضح أمر هذا التحالف "المقدس" مع الجهاديين حين تم الكشف عن الخطاب الموجه من طرف الغنوشي إلى هؤلاء السلفيين يدعوهم فيه إلى الإسراع بتأسيس العديد من الجمعيات الدينية بغرض أخونة تونس ما دام حزبه هو المسيطر على الحكومة. وتوالت التوددات بين الطرفين المتأسلمين من خلال الدفاع عن السلفيين وحمايتهم وغض الطرف عما يقومون به من هجمات على القنوات التلفزية وعلى الجامعات والكليات ومن ترهيب للمواطنات والمواطنين ... ولم يقلص من حدة هذا الزواج الكاتوليكي سوى سعار السلفيين الذين هجموا على السفارة الأمريكية وقتلوا سفيرها ثم أعادوا الكرة مع اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد ... حينها تبين للغنوشي وأتباعه أنهم انزاحوا عن الطريق المستقيم في عيون الحكام الأمريكيين والغربيين عموما وعليهم العمل على كبح جماح نزواتهم وتقليم أظافر حلفائهم السلفيين بشكل مؤقت لئلا يطالهم غضب أسيادهم. وبدأت تنتابهم الفرقة وتتخلل صفوفهم الخلافات مما أدى إلى استقالة الوزير الأول حمادي الجبالي الذي كان ينادي بتشكيل حكومة من التقنوقراط في انتظار وضع الدستور وتنظيم انتخابات تشريعية. وبما أن هذا الطرح يسير في الاتجاه المعاكس لما يطمح إليه الغنوشي، فقد عين وزيرا أولا على مقاسه إدعانا في الاستغلال المفرط لما توفره للمتأسلمين غلبتهم في الهيأة التأسيسية المشرفة على وضع الدستور وهي المؤسسة التمثيلية الوحيدة المنتخبة إلى حدود الآن. لعل الغنوشي أراد أن يقول لذويه أنه من الأفيد الاستفادة من الواقع الحالي المعروفة معطياته والمتحكم في مجرياته على الرهان على انتخابات تشريعية مقبلة مجهولة العواقب. على كل حال، لم يتسن للغنوشي أن يتصرف وفقا لأهوائه وغاياته من فرط رغبته في التحكم في مصير الشعب التونسي بأقصى سرعة ممكنة ودون وجود أية عراقيل ومضايقات في طريقه المفضي إلى أخونة تونس. ولكنه اضطر إلى فرملة طموحاته "الجياشة" بناء على مجموعة من العوامل الداخلية أساسا والخارجية بصفة ثانوية. كان لحادث اغتيال السفير الأمريكي وقعه في دفع المتأسلمين إلى مراجعة علاقاتهم مع السلفيين الجهاديين مما أدى إلى تعدد المواجهات معهم مؤخرا. أما داخليا، مع تفاقم الوضع الاقتصادي والسياسي، تواصلت الاحتجاجات الشعبية بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي وصفها اليساري حمة الهمامي الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية وهو ائتلاف يساري، في استجواب مع جريدة الشروق الجزائرية، كما يلي : "الاقتصاد يعيش حالة ركود لم يشهدها منذ الاستقلال، وباتت كل المؤشرات سلبية، ما انعكس سلبا على معيشة المواطن، حيث ارتفعت المديونية إلى حد لا يطاق وأصبح أمر تسديدها من ضرب الخيال، كما ارتفعت نسبة البطالة إلى مستويات قياسية وبلغت 18 بالمائة، وتوسعت دائرة الفقر وما الظواهر التي نراها في شوارع البلاد وخاصة في العاصمة تونس إلا خير دليل". ويمكن قول نفس الشيء فيما يخص الوضع السياسي الذي لخصه كالتالي : "أما سياسيا، فتونس تعرف حالة احتقان وتجاذبات واضطرابات، فالإصلاحات التي انتظرها الشعب وقام من أجلها بالثورة متوقفة، وطالت المرحلة الانتقالية التي حددت بسنة، ونحن الآن وبعد أكثر من 18 شهرا دون تحقيق ما تم الاتفاق حوله فيما يتعلق بالدستور والانتخابات ومختلف الهيئات الشرعية، الأمر الذي أفرز حالة من اللااستقرار السياسي وانسداد وتخوف من المستقبل، هذه الوضعية خلقت اضطرابا أمنيا وحالة غير مستقرة، خاصة مع ما يحدث على الجهة الشرقية لبلادنا وانتقال السلاح من ليبيا، كما باتت الحريات مهدّدة وآخرها اغتيال السياسي شكري بلعيد، وارتفعت نسبة الجريمة الى مستويات خطيرة ونلمس ذلك في مظاهر السطو على الأشخاص والممتلكات باستعمال الأسلحة وانتشار ظاهرة تعاطي المخدرات بشكل لافت". والصراع الآن محتدم حول مشروع الدستور وقانون تحصين الثورة الذين تحاول النهضة إحكام قبضتها على المجتمع التونسي من خلال مضامينهما الرجعية والمنافية لحرية العقيدة على وجه الخصوص. وما تزال الأوضاع مرشحة لشتى الاحتمالات بعد تأسيس حركة تمرد تونس الداعية إلى إسقاط المجلس التأسيسي وحكم الإخوان عامة بتونس.ا حالة المغرب لم تنقطع احتجاجات المواطنين والمواطنات منذ 20 فبراير 2011 . وقد استطاعت حركة 20 فبراير ترسيخ تقليد جديد على صعيد صيغ التعبير عن مطالبها بتنظيم تظاهرات ووقفات واعتصامات بالساحات العمومية. وامتدت هذه الأشكال النضالية لتشمل مختلف فئات المجتمع عبر ربوع الوطن سواء تعلق الأمر بالسكن أو التعليم أو الصحة أو الشغل أو حقوق الإنسان أو الماء والكهرباء أو الاغتصاب أو مشاكل عمال المناجم أو إطلاق صراح المعتقلين ... وفي نفس الوقت، لوحظ اللجوء إلى القمع المفرط لمواجهة هذه التحركات بمجرد ما تم تشكيل الحكومة نصف الملتحية الحالية التي تجند رئيسها بن كيران لتبرير تصاعد حدة القمع بما يعانيه أفراد القوات الأمنية المتدخلة أثناء مزاولتهم مهام "تفريق" المحتجين من "جوع وبرد وطول انتظار". كما طالت المحاكمات والاعتقالات العشرات من الناشطين في حركة 20 فبراير والطلبة والحقوقيين والنقابيين والمواطنين ... وما يزال الوضع على هذا الحال مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية المرشحة لاتخاذ أبعاد أكثر خطورة بفعل انعكاسات الأزمة الاقتصادية الأوروبية على المغرب ويمهد علاوة على ذلك لانخراطه من جديد في نفق برنامج التقويم الهيكلي التي لا تزال آثار مضاعفاته الخطيرة تنخر المجتمع المغربي على مستوى التعليم والصحة والشغل ... في ظل هذه الأجواء، انضافت عوامل سلبية أخرى لها علاقة مباشرة بالقرارات المتخذة من طرف الحكومة الخاضعة تماما لإملاءات المؤسسات المالية الدولية والتي يعتقد رئيسها وأتباعه أن رفع أسعار المحروقات وفرض ضرائب إضافية على الطبقة الوسطى والاقتطاع من أجور الموظفين في انتظار ما سيأتي ... يعتقدون أن القيام بهذه الإجراءات التفقيرية في حق الشعب المغربي هو التعبير الواضح عن "الشجاعة السياسية" التي يتحلون بها وهو المدخل لإطلاق "إصلاحاتهم". وسيعتمدون نفس السلوك لإرضاء أسيادهم من صندوق نقد دولي وبنك عالمي ... وهذه المرة، وامتثالا للضغوطات الملحة لصندوق النقد الدولي، قاموا باقتطاع 15 مليار درهم من ميزانية الاستثمار ستتضرر منها القطاعات الاجتماعية بالأساس وعليهم أن يباشروا ملفات لم تجرؤ أية حكومة من الحكومات المتعاقبة منذ 1983 على الاقتراب منها خوفا من تكرار "انتفاضة الكوميرا" كما وقع بالبيضاء في 20 يونيو 1981 يوم تمت الزيادة في المواد الأساسية. الأمر يتعلق ب"إصلاح" صندوق المقاصة بما يعنيه من رفع اليد عن الدعم العمومي للزيت والسكر والدقيق وغيرها من المواد المدعمة وترك المواطنين والمواطنات، في آخر المطاف، "منزوعي السلاح" في مواجهة حقيقة الأسعار وكذا من استهداف مصالح اللوبيات المستفيدة من تعويضات الصندوق. ويتعلق الملف الثاني ب"إصلاح" نظام التقاعد عن طريق الزيادة في المساهمات الشهرية للمنخرطين أو الرفع من سن التقاعد ... إن الإقدام على فتح هذه الملفات المصيرية بالنسبة للمغاربة محفوف بالمخاطر ويتطلب التسلح بروح وطنية عالية تضع المصلحة العليا للوطن وللمواطنين فوق كل اعتبار. وعليه، لا يمكن الاستهانة بموضوع صندوق المقاصة مثلا والتعامل معه بنظرة حزبية ضيقة لا يترآى لها سوى استغلال الموارد المالية العمومية قصد ضمان خزان من الأصوات في الانتخابات المقبلة. هذه المواضيع، بالإضافة إلى تشغيل الدكاترة المعطلين وأسعار المواد الأساسية، فجرت خلافات واسعة وسط الحكومة الضعيفة وغير المنسجمة أصلا مما أدخلها في أزمة طال أمدها وينتظر أطرافها الرئيسيون بفارغ الصبر تدخل الملك للحسم في اتجاه أو آخر لحل معضلة هذه الحكومة الهجينة التي نسيت مكوناتها أن البرلمان قد صادق على برنامجها وهي ملزمة بتنفيذه وراحت تصطنع صراعات تافهة لصرف المواطنين عن الانشغال بمصالحهم ولا تمت بصلة بإصلاح الأحوال المعيشية للشعب المغربي. وهذا ما أخل بالعمل السياسي بعدما انساق رئيس الحكومة في استخدام قاموس غريب ومنحط سرعان ما تجاوب معه زعماء آخرون للنزول به إلى الحضيض. في خضم التراشق المتبادل بالألفاظ النابية المستقاة من عوالم الحيوانات والإنس والجن، تناسى بن كيران مجمل الكذب الذي أغدقه على المواطنين وصار يبحث عن مشاجب لفشله الحكومي الساطع إذ غدا شعار حملة حزبه الانتخابية "صوتنا فرصتنا ضد الفساد والاستبداد" يثير الشفقة بعدما أعلن شخصيا بصدد الفساد "عفا الله عما سلف" وصار يخطط وحيدا ليستبد حزبه بشؤون البلاد والعباد وعوض محاربة الاستبداد جعل منه النمودج المقتدى به مع تنزيه رجالاته، من دون كافة الناس، من كل شرور الدنيا. وهذا لا يزيد إلا في تعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد ويعمل على استفحال التوترات الاجتماعية في كافة أنحاء التراب الوطني.ا وما حدث ويحدث بشأن الحكومة الملتحية يبين أن المتأسلمين، الذين تصرفوا كانتهازيين سياسيين وسرقوا ثمار ما فرضته حركة 20 فبراير التي كان ينعثها بن كيران بجماعة "الطبالة والغياطة"، أن هؤلاء المتأسلمون قد أصبحوا مثل ألعوبة في أيادي المخزن يفعل بها ما يشاء إذ أنه بإمكانه تمديد عمرهم في الحكومة عبر إصدار أوامره لحزب إداري ما للتحالف معهم كما يمكن أن يسقطهم منها في أية لحظة. المشكل أن الملتحين قد تمكنوا من استعداء الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والباطرونا ... والسلفيين حتى ... فيما لا يتضمن سجلهم من المنجزات سوى الزيادة في أثمان المحروقات والاقتطاع من رواتب الموظفين وإصدار قانون واحد ووحيد المعروف ب"ما للملك وما لبن كيران" في موضوع التعيين في مؤسسات الدولة. هذه الحصيلة الهزيلة، مضافة إلى سياسة الإقصاء والاستعداء التي انتهجوها، ستنعكس سلبا على شعبيتهم وستفرض عليهم التفكير مليا قبل التهديد بالنزول إلى الشارع كما كانوا يزايدون في السابق.ا كل هذه التطورات الملاحظة تبرهن على أن السيرورة التي أطلقتها حركة 20 فبراير ما تزال تؤثر في مجريات الأحداث السياسية على الصعيد الوطني.ا
حالة قطر تعرف دويلة قطر مؤخرا تطورات خطيرة ومتسارعة لعل أبرزها تنحي الأمير الوالد عن السلطة لصالح الأمير الولد وإقالة الوزير الأول السابق من منصب وزير الخارجية كذلك ... مما يثير عدة تساؤلات عن الأسباب الكامنة وراء هذا الانقلاب الأبيض داخل البلاط. وما وقع يوم 25 يونيو 2013 يشبه إلى حد بعيد ما حدث سنة 1995 حين أزاح الولد حمد أباه خليفة من السلطة وهو الذي أطاح بعمه سنة 1972. ربما انطبقت مقولة "من "شابه أباه، فما ظلم" على هذه الحوادث. وتحدث هذه الانقلابات في أجواء مناخ من التقليد الضارب بأطنابه في جذور مجتمع عشائري ما تزال قبيلة آل ثاني هي الآمرة الناهية في شؤونه وما يزال يخضع لطقوس عفا عنها الزمن منذ قرون وقرون من قبيل استدعاء أهل الحل والعقد لمعاينة ومبايعة إجراءات التنحي وتسليم السلطة للأمير الجديد.ا وإن كان النظام العشائري قد أراد أن يقدم مسألة تنصيب الأمير الجديد لقطر كسابقة أنهى بها أبوه حكمه، فإن هذا المنطق لا يستقيم مع العقلية القبلية المترسخة في أذهان أفراد القبيلة الحاكمة والمعززة بالإديولوجية الوهابية الغارقة في التخلف. وليس بمقدور حتى الذرائع الصحية تبرير هذا التحول الفجائي والغريب الصادر عن حاكم مريض بالسلطة إلى حد عدم السماح لوالده بالاستمتاع بإجازته في سويسرا والإطاحة به في مثل هذه الظروف المطابقة لعقوق الوالدين. فكيف لمثل هذه الكائنات أن تنقلب على نفسها طواعية وتسلم أمرها لأبنائها بهذه "السلاسة"؟ من المؤكد، أنه يصعب تصديق هذا النوع من التخريجات إذا علمنا أن قبيلة آل ثاني معروفة بانقلابات الطامعين في السلطة بعضهم عن بعض. ومما يزيد من تعميق الشك هو أن التخلي عن الحكم قد استتبع بإقالة طاقم الأمير "المنسحب" وخصوصا الرجل القوي ضمنه الذي استحوذ على منصبي الوزارة الأولى ووزارة الخارجية لسنوات عديدة وهو من ساهم بشكل وافر في صنع "الانتصارات" الديبلوماسية القطرية من خلال الجزيرة وحملاتها الإعلامية ومساندة وتمويل المتأسلمين المتطرفين منهم و"المعتدلين" خلال "الربيع العربي" وبعده. في هذه الحالة، أقل ما يمكن أن يقال، أن هؤلاء الحكام ليسوا صالحين للأمير الجديد وأن هذا الأخير يحتاج إلى طاقم ينسجم معه لتدبير شؤون البلاد. ويمكن، مثلا، أن يقال أن مقاربة الحاكمين السابقين لم تعد صالحة في هذه الفترة المتسمة عموما بالضغوطات الشعبية الممارسة على الحكام المتأسلمين الذين صعدوا، بشكل انتهازي، إلى السلطة مستفيدين من ثمار "الربيع العربي" ومخططين لأخونة مجتمعاتهم. إلا أن تطور الأحداث قد بدأت تغير معادلات المتأسلمين بانخراط المواطنين والمواطنات في عملية إعادة النظر في تسلطهم وخدمة مصالح أحزابهم. هذا الدخول القوي للجماهير الشعبية هو الذي أربك حسابات الأنظمة الحاكمة وأسيادهم الغربيين ... مما فرض عليهم النظر ب"واقعية" لما هو موجود في الساحة لئلا تنفلت الأمور من أيديهم ويستعصي عليهم التحكم في مصائرها. وعادت لغة التمييز بين المتطرفين وغيرهم والانتقاء بالنسبة للتسليح ... في ظل هذه "المراجعات"، حدث انقلاب أبيض داخل النظام القبلي القطري المتحمس لمساندة وتمويل وتسليح المتأسلمين أينما حلوا وارتحلوا وتمت إزاحة الفاعلين الرئيسيين في هذه العملية. ألا يوحي الانقلاب بكونه مرتبط بالظرفية الجديدة المتميزة بتسطير خطوط جديدة في التعامل مع المتأسلمين سمتها التراجع عن الضوء الأخضر السالف الممنوح لهم؟ وعليه، فإن المقاربة السابقة قد استنفذت أغراضها وما عاد الحكام الغربيون بحاجة إلى منفذيها من المسؤولين السابقين. وإن كان تميم يوصف بأنه أكثر تطرفا من أبيه، فإن أسياده قادرون على لجم تنطعاته ليسير في "الطريق المستقيم" المسطر له. ولعل ما تم ترويجه على ضرب القرضاوي وطرده من قطر يدخل في هذا الإطار.ا هذا أول ما جناه "الربيع العربي" على حكام قطر. وقد تلقت ضربة موجعة على إثر ثورة 30 يونيو المصرية التي عزلت الرئيس الإخواني مما أفقدها أحد معاقل استثماراتها ووجه ضربة قاسية لحركة الإخوان المسلمين التي تدعمها خصوصا أن حكم المتأسلمين معرض لهزات مقبلة بعدما تأسست حركة تمرد في عدة بلدان.ا
خاتمة يستخلص مما سبق أن "الربيع العربي" عبارة عن سيرورة طويلة الأمد في اتجاه الديمقراطية بالرغم مما سيتخللها من عراقيل وتراجعات ... ولم تنج لا تركيا ولا قطر ... من تأثيرات "الربيع العربي" الذي سينبعث في بلدان أخرى اعتبرت نفسها خارجة عن منطقة استقطابه. وإن كانت إفرازاته الأولى هي صعود المتأسلمين إلى الحكم في أكثر من بلد، فإن الأحداث التي تعيشها مصر وقطر وحتى تركيا وغيرها قد وضعت تجربة حكمهم تحت المحك وساعدت على الكشف عن العديد من التناقضات التي تحبل بها تنظيماتهم من حيث المبادىء والأخلاق والمتاجرة في الدين واللجوء إلى العنف والإقصاء وتضخيم الذات ... وبما أن الحركات الشعبية قد أرست تقاليد النزول إلى الشوارع والتعبير عن مطالبها بكل جرأة وشجاعة، فقد اتخذت هذا الأسلوب النضالي بمثابة الآلية التي تتدخل بواسطتها من أجل تصحيح مسار الثورة في كل منعرج يراد منه تحريف اتجاهها الديمقراطي.ا
تعليقات الزوار
ف1 - فريد اعدشين هذه بعض الملاحظات حول سيرورة الربيع الديمقراطي الذي عرفه الوطن العربي1- كان فاقدا للحزب الطلائعي الذي يقود نضالية الجماهير نحو تغيير النظام الاقتصادي الاجتماعي من نمط عيش إلى نمط عيش أرقى ولا تغيير أشخاص بلباس لنفس النمط وهذا ما عرفته كل من انتفاضات الربيع الديمقراطي العربي في كل من مصر وتونس ولبيا واليمن ومن قبلهم العراق واللائحة لم تنحصر بدعوى تصدير الديمقراطية الأروميركانية على بوارج ودبابات 2- كما أن النخبة المثقفة اليسارية والتقدمية (المثقف العضوي )كان مندمجا في وهم اسمه الانتقال الديمقراطي 3-وكذلك غياب رؤى تحليلية للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية لبنية المجتمع العربي وضبابية الوضوح الايديلوجي لليسار العربي نحو أي مجتمع نريد؟ كل هذا جعل انتفاضات الربيع الديمقراطي العربي لم تتحول نحو ثورةوطنية ديمقراطية وللتصحيح مايمكن تصحيحه في مسار التحولات السياسية التي تعرفها المنطقة لابد من وحدة يسار فعلي واضحة المعالم بعيدة عن المزايدات السيسيوسياسية محددة طبيعة التحالفات حاسمة في القضايا التي تشغل الرأي العام العربي (نمط العيش - الدولة- الدين ).فوحدة الوطن العربي رهينة بتغيير نمط عيش المواطن العربي
ا 2 - طراقي الحسين الرفيق العزيز فريد، قدرنا أن نظل إلى ما لا نهاية مهمومين بمصير البشرية جمعاء وعلى مستوى الشرق الأوسط وشمال افريقيا جهويا وفي وطننا العزيز محليا ... شاءت الأقدار أن نعاين الملايين من التونسيين والمصريين والليبيين واليمنيين والسوريين والبحرينيين ... يتظاهرون ويعتصمون ويقمعون ويرددون شعارات ثورية ... وعشنا سنة كاملة من التظاهرات التي غطت عددا كبيرا من مناطق المغرب وشارك فيها مئات الآلاف من المواطنين سنة 2011. وهذا المشهد لم يسبق أن وقع مثله في بلدنا منذ الاستقلال ... هذه الأحداث في حد ذاتها كافية لكي توقظ فينا بعض الحماسة وتجعلنا نتشبت بالأمل في بزوغ أنظمة ديمقراطية في هذه البلدان الغارقة في الاستبداد ... لقد تفاجأنا كما تفأجأ الجميع من عزم المواطنين على الخروج والتظاهر في الساحات العمومية في المواعيد المحددة من طرف شباب الفايسبوك ... وتأثرنا كثيرا برؤية الملايين تتدفق في الشوارع والساحات وتواجه آلات القمع بشكل سلمي ... هذه الصور واللقطات جعلتنا نقارن بين ما تشبعنا به من قناعات اديولوجية وسياسية وما مارسناه فعليا ... ومن ذلك مثلا أننا كنا نسعى إلى إقناع المواطنين بالانخراط في الحياة السياسية والاهتمام بشؤون وطنهم ... كما كنا نحدد دوما هدفا تنظيميا يتعلق بتوسيع جماهيرية التنظيم الحزبي ... هذه الحركات استطاعت أن تحشد الجماهير وتقحمها في معمعان النضال من أجل التغيير ...ا وها قد توفر شرط الجماهيرية في ساحة النضال وتحمل المواطنون مسؤولية الانخراط في العمل السياسي من بابه الواسع وفي ظرفية تؤشر لمنعطفات تاريخية في هذه البلدان ... بكلمة، توفر الشرط الموضوعي للتغيير لكن الشرط الذاتي المرتبط بالأداة التنظيمية اليسارية القادرة على تأطير وتوجيه الجماهير بنوع من الوضوح في الرؤية والأهداف المتوخاة من هذه التحركات ... لم يكتب لها أن تكون في الموعد وأخطأت موعدها مع التاريخ نظرا لضعف مكوناتها من ناحية ونظرا لعدم قدرتها على توحيد ورص صفوفها استعدادا لكل الطوارىء والاحتمالات ... هذا لا يلغي أن أطرافا من اليسار قد ساهمت مساهمة فعلية في تلك التحركات الجماهيرية بينما اختارت أخرى ألا تقتحم هذا المعترك لحسابات سياسية أو سياسوية خاصة بها ... مما فوت على اليسار إمكانية قيادة تلك الحركات وبوأها مكانة ثانوية بعد العدل والإحسان في المغرب مثلا ... مع العلم أن المغرب، مقارنة مع تونس مثلا، لم يعرف انخراط النقابات "التقدمية" في الحراك الشعبي مما كان له انعكاس على أداء الحركات عموما واليسار بشكل خاص ... ربما أن اليسار لم يحسن تقدير الظرفية وقلل من حظوظ نجاح الحراك الشعبي لذلك ارتأى البعض عدم المشاركة فيه فيما حرص البعض الآخر على عدم الزج بكل ثقله في المعركة تفاديا لصراع فاشل مسبقا حسب تقديره وتفاديا لعدم حرق جميع أوراقه مع الدولة ... هل هذا يعني أن اليسار ككل، إذا جمعنا كل مكون ينسب نفسه لليسار، يتوفر على القوة الكفيلة بجعله قادرا على قيادة النضالات الجماهيرية وأن المعضلة في تخلف أطراف منه في الأوقات الحاسمة أم أن اليسار ككل ضعيف وغير قادر على تحمل هذه المسؤولية أم أن المشكل يكمن في التوجهات السياسية لكل الأطراف والتي تقف عائقا أمام الانخراط في النضال الجماهيري وأمام توحيد صفوف اليسار ...؟ إن نوعية الأجوبة على هذه الأسئلة هي التي ستحدد المهام المطروحة على اليسار : هل هي إعادة البناء أم توحيد الصفوف أم العمل المشترك أم القيام بمراجعة نقدية للذات ...؟ وفي خضم هذا التحري حول وضعية اليسار وبموازاة معه، يتعين التفكير في التحالفات الممكنة من أجل أهداف واضحة ومحددة في إطار النضال الجماهيري ... ولعل هذا العمل وتطوره نحو الأحسن هو الكفيل ببعث الروح في المثقفين عموما لفهم الواقع والفعل في مجرياته ...ا