المتأسلمون المغاربة والشرعية المزعومة طراقي الحسين
ليس غريبا أن يجمع المتأسلمون المغاربة بكل أطيافهم على نفس الموقف مما وقع في مصر يوم 3 يوليوز 2013 . اختلاف التنظيمات وربما زوايا النظر والتحليلات لا محل له من الإعراب في هذه الحالة ما دام الأمر يتعلق برئيس متأسلم مثلهم تماشيا مع مقولة "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما". بالرغم من التباينات المفترضة بين تيارات تدعي الديمقراطية مثل البديل الحضاري وحزب الأمة وتيارات غارقة في الرجعية حتى النخاع مثل السلفية الجهادية، فالجواب الصادر عن كل هذه التيارات يبدو قطعيا وليس فيه نقاش ولا يحتمل أي قراءة تنحو في اتجاه طرح فرضيات أخرى غير المعبر عنها من طرفهم. فالجميع متفق على شعار واحد وهو الانقلاب على الشرعية التي يعنون بها شرعية صناديق الاقتراع ولا شيء غير الانتخابات. وأي طرف يقول عكس هذا حتى من داخل المتأسلمين كمثل حزب النور في مصر على سبيل المثال، فهو متأكد من أن يصنف ضمن الخونة من طرف إخوانه في الوهابية الغارقة في التخلف. وهذا ما عبر عنه المدعو الكتاني متهما النور والأزهر كما يلي : "أنهما خونة لهذه الأمة لا دين ولا مروءة ولا كرامة ولا شهامة.. فإلى مزبلة التاريخ"( عبد الرحمان داداوي، 'اسلاميو' المغرب يجمعون على أن ما جرى في مصر 'إنقلابا على الشرعية'، لكم.كوم، الخميس 4 يوليوز 2013 ). هل هناك من تطرف أكثر من هذا منبعث من متأسلم لا يقيم أي اعتبار للمواقف المغايرة وحيثياتها ولو كانت صادرة عن مؤسسة دينية كبيرة مثل الأزهر؟ إن ردود الفعل على هذه الشاكلة تنم عن كون الموقف المخالف الصادر عن نفس البنية الفكرية للمتأسلمين تضرب في الصميم طروحاتهم وأحكامهم السريعة والمتسرعة وتتخذ صبغة أكثر قوة سيما أن هذا الموقف قد عبرت عنه أطراف مصرية متأسلمة بما يعنيه ذلك من كونه ينطلق من الواقع المصري الذي يجهله شيوخ الظلام المغاربة ومن ثمة يدرج مواقفهم ضمن خانة الآراء التي لا علاقة لها بما يعتمل داخل الواقع المصري. بالتأكيد أن المسألة إذا طرحت بهذا الصيغة، ستضع "الشيوخ" في وضعية لا يحسدون عليها وسيفصحون عن أصولهم ونزوعاتهم العدوانية بكل تلقائية كما فعل الكتاني الذي انتابته جنون التحريض على العنف والفتك بالمعارضين والمخالفين لولي الأمر عندما خاطب مرسي قائلا : " أيها الرئيس محمد مرسي انتخبك الشعب، فاضرب بيد من حديد أهل الفتنة و التمرد، وفلول الطاغية، ولا تأخذك فيهم لومة لائم(www.lakome.com"›مجتمع › مجتمع). كيف يمكن الوثوق بهذا النمودج الذي يدعو إلى سفك دماء أكثر من 30 مليون من البشر ولا يستحيي من الحديث عن الديمقراطية والشرعية والإرادة الشعبية؟ هذا أسلوب المنافق بامتياز الذي لا يعرف الديمقراطية ولا هم يخزنون وإنما يستلهم أفكاره السوداء من الفاشية والنازية. وكان عليه، حتى يكون منسجما مع نفسه، أن يتسلح بالشجاعة اللازمة ويكشف على وجهه الدموي ويبحث عن مبررات أخرى للتعبير عن مساندته للرئيس المخلوع بالاغتراف من قاموسه الموغل في التأخر وتدبير الاختلاف بتخوين أهله في الجماعة الإسلامية وحد السيف. ولكي يمضي في غيه إلى مداه، خاطب الشعب المصري متوعدا وشاتما : "لا تستحقون إلا العسكر يدوي رقابكم ويسومكم الذل والهوان ولا تستحقون حاكما طيبا حاملا لكتاب الله"(نفس المصدر). مما يعني أن رأي النوع من آكلي قلوب البشر لا علم له ب"وجادلهم بالتي هي أحسن" أو ما شابه ذلك وما يتقنه هو رفع الراية السوداء للقراصنة ومرتزقة الوهابيين قصد إشعال نيران الفتن ولا تهمه الديمقراطية لا منقريب ولا من بعيد.ا من جانب آخر، إذا كان هناك تضارب في الآراء بين المتأسلمين على صعيد مصر، فإن ما ميز التيارات المتأسلمة المغربية هو وحدة الموقف من جهة والحرص على تحميل الطرف الآخر مسؤولية فشل الرئيس الإخواني المنزه عن الخطأ. في هذا الإطار، هناك من اجتهد، منطلقا من نظرية المؤامرة وعاقدا مقارنات لا علاقة لها بتجربة المتأسلمين، محاولة منه إضفاء طابع الضحية المعتادة على حكم مرشد الإخوان في مصر.ا وتجدر الإشارة كذلك أن حزب بن كيران لم يعبر عن موقف رسمي فيما يخص أحداث مصر الأمر الذي فتح الباب لبروز تناقضات ملموسة بين قادته وبينهم وقيادة حركة التوحيد والإصلاح الموازية لهم. هكذا، تم تسجيل ثلاث مواقف مختلفة على الأقل. ما عبر عنه العثماني، كوزير خارجية، في لقائه بوزير الخارجية الفرنسي حيث اكتفى الطرفان بالدعوة للمصالحة والحفاط على وحدة مصر. ما صدر عن وزير الدولة باها الذي أرجع أسباب عزل مرسي إلى الأخطاء التي ارتكبها هذا الأخير. وما أعلن عنه الفريق البرلماني للحزب بخصوص الانقلاب. علاوة على موقف رئيس حركة التوحيد والإصلاح الذي حرص على الرد على باها موضحا أن "تضايق أصحاب الامتيازات ولوبيات الفساد من المشروع الإصلاحي في مصر" هو السبب وراء العزل وليس أخطاء مرسي.ا إلا أن الملاحظة العجيبة في مواقف المتأسلمين عامة هو عدم ذكرهم ولو من باب التلميح لعشرات الملايين من المصريين والمصريات الذين امتلأت بهم ساحات التحرير في كل مناطق مصر وكأن سقوط مرسي لا صلة له تماما بهذا الطوفان الشعبي المعارض للرئيس المعزول.ا وبما أن المتأسلمين قد اتفقوا موضوعيا على وجهة نظر متشابهة، سنكتفي بإيراد الصيغة التي وصف بها رئيس الحركة ما وقع في مصر على هذا الشكل : "انقلاب على الشرعية والديمقراطية والإرادة الشعبية ..." يلاحظ أنه استعمل مفاهيم من العيار الثقيل ذات المرجعية الديمقراطية لتحديد نوعية الانقلاب. وكأننا بديمقراطي أكثر من الديمقراطيين يدافع عن مسار ديمقراطي أرسى دعائمه المتأسلمون بعد وصولهم للحكم وتم إجهاض هذا التوجه عن طريق انقلاب عسكري لا غبار عليه. سنحاول مناقشة "الشرعية" المنبثقة عن "الإرادة الشعبية" و"الديمقراطية" المختلفة عن الشورى وأهل الحل والعقد "العلماء" الذي لا يمثلون العامة الجاهلين ولا حاجة لهم بتاتا بشرعية شعبية للتقرير في مصير البلد وفرض سلطتهم "المعرفية" ...
كيف يتصور المتأسلمون الديمقراطية؟ لن نغالي إذا قلنا أن المتأسلمين المتطرفين يكفرون الأحزاب السياسية والسياسة والديمقراطية ... باعتبارها مستوردة من الغرب الكافر. فيما صار عدد من "معتدليهم" يقبلون ببعض الجرعات من الديمقراطية لتطوير أداء الشورى مع التنبيه دوما إلى ضرورة عدم تعارضها مع أحكام الشريعة. فالأصل والإيمان هو الشورى فيما الديمقراطية ليست إلا مادة تكميلية يمكن استغلالها لتعويض نقائص الشورى. أما المتطرفون منهم، فلا يزالون ينكرون أي تشابه بين الشورى والديمقراطية. وهذا ما ورد في مجلة البيان بتاريخ 21/5/2013 في مقال تحت عنوان "بين الشورى والديمقراطية" : "يقارن كثيرون بين الشورى والديمقراطية ويحاولون إيجاد أرضية مشتركة كبيرة بين الأمرين، ظنا منهم أن في إثبات العلاقة بينهما مكسبا للإسلام وهم لا يعتمدون في ذلك في حقيقة الأمر على أدلة يدعمون بها دعواهم، وجل ما لديهم في ذلك هو ذكر تشابه فرعي في مسألة جانبية ليست من صلب الديمقراطية، وهم في الحقيقة قد خانوا العلم بتصرفهم ذلك وأساءوا إلى الدين ولم ينصفوه، ولو أنصفوا وأعطوا العلم حقه لبينوا الخلاف الجوهري بين الشورى والديمقراطية التي تمنع من إيجاد لقاء أو تقارب بينهما. فالشورى والديمقراطية مصطلحان يتشابهان في المدلول وربما يتماثلان عند طائفة من الناس، لكن عند آخرين يتعارضان بل يتناقضان، وهذا الأخير هو الواقع فعلا"(محمد بن شاكر الشريف، بين الشورى والديمقراطية، مجلة البيان، 21/5/2013،www.albayan.co.uk/article.aspx?id=2812). حسب هذا المتأسلم، فالشورى تتعارض وتتناقض مع الديمقراطية. وأية محاولة للبحث عن نقط الالتقاء بينهما اعتمادا على العلم لن تكون سوى خيانة للعلم وإساءة وعدم إنصاف للدين. واضح أن هذا التيار لا يجمعه مع الديمقراطية سوى الخير والإحسان! وهو، في الآن نفسه، متشبت أيما تشبت بالشورى. وللمزيد من التوضيح، كتب ما يلي : "والديمقراطية تعني استقلال الإنسان في اختياراته الفردية والمجتمعية من غير تدخل من أية أطراف خارج الإنسان سواء كانت أعرافا أو أيدلوجيات بما يعني حاكمية الشعب في ضوء المبدأ المشهور الذي مضمونه أن السيادة للشعب ... الديمقراطية في الفهم العامي أن يختار الشعب حكامهم بإرادتهم من غير أن يفرض عليهم من خارجهم وأن يحاسبوا حكامهم إذا تجاوزوا الحدود ... وفي الشورى يتشاور أهل الاختيار من المسلمين لاختيار حكامهم وفق الشروط والضوابط التي بينتها أحكام الشريعة، ولهم مراقبتهم وتقويمهم ومحاسبتهم ومن ثم عزلهم إذا خرجوا على الشريعة"(نفس المصدر). الفرق شاسع، إذن، بين سيادة الشعب وسيادة أهل الاختيار من جهة وبين حاكمية الشعب وحاكمية الله من جهة ثانية. ومن الطبيعي أن تصدر عن مثل هؤلاء المتأسلمين مواقف قطعية لا تتيح أي إمكانية للتوفيق بين الشورى والديمقراطية ولا ترخص للقيام بتحالفات بين المتأسلمين والديمقراطيين حتى ما دام المتأسلم قد أوصى بما يلي : "وإن كنت أرى من وجهة نظري أن على الإسلاميين ألا يتحالفوا مع من يخالفهم في أصل التوجه وأن يقتصر تحالفهم على من يوافقهم في أصل التوجه، وأن عليهم السعي لإزاحة غيرهم عبر المسلك السلمي لأنه لا ينقصهم شيء يحتاجون لاستكماله من غيرهم، وما عند غيرهم من الخير لا يحتاجون له لأن ما عندهم أفضل وأكمل مما لدى كل أحد غيرهم ومن ثم فلا حاجة لمثل ذلك التحالف الذي يخصم من رصيد الإسلاميين لصالح مخالفيهم"(نفس المصدر). هذا الصنف لا يحتاج إلى تعريف. فهو ربما صنو الفاشي الكتاني الذي لا يؤمن بالحلول الوسطى والتوافق والتحالف وما إلى ذلك مع الديمقراطيين والعلمانيين ... ما أتى به المتأسلم السابق لا يختلف كثيرا عن غيره من المتأسلمين إلا في الجزئيات فيما الجوهر واحد لا انزياح عليه. يقول أبكريم عبد الحميد في مقاله المعنون ب"الديمقراطية والشورى في الممارسة المغربية" الصادر بجريدة الخبر بتاريخ 14 شتنبر 2012 ما يلي : "إذا كان المقصود بالديمقراطية إعطاء الشعوب حق التشريع المطلق والسيادة العليا وإقرار مبدأ فصل الدين عن الدولة، فإنها بهذا المعنى تخالف مذهبية الإسلام عقيدة وشريعة، ففلسفة الإسلام تقوم على الجمع بين الدين والسياسة وتؤلف بينهما وحدة منسجمة وكلا لا يتجزأ"(أبكريم عبد الحميد، الديمقراطية والشورى في الممارسة المغربية،www.alkhabar.ma›آراء وتحاليل). حين يتعلق الأمر بالتشريع وفصل الدين عن الدولة، فإن الديمقراطية غير مرغوب فيها لكونها تمس بالشريعة. المشكل يأخذ أبعادا أخرى متى اختزلت الديمقراطية إلى آليات لتنظيم الحكم ويتم الترحيب بها كالتالي : "أما بالنسبة للصيغ والأشكال التنظيمية التي أفرزتها الديمقراطيات الغربية، كانتخاب مجالس ممثلي الأمة، والاستفتاء، والتعددية السياسية، وباقي أساليب المشاركة السياسية المستحدثة وآليات إحقاق حريات الفرد، فليس في الإسلام ما يمنع من الاستفادة منها وتوظيفها لتطوير نظام الشورى، شريطة أن لا تتعارض هذه الأنماط والتنظيمات الإدارية مع مبادئ الشرع الإسلامي. فالإسلام لا يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي من غير المسلمين، فقد اقتبس الرسول صلى الله عليه وسلم فكرة الخندق من الفرس، كما جعل أسرى بدر المشركين يعلمون المسلمين القراءة والكتابة، وكذلك اقتبس عليه الصلاة والسلام ختم كتبه من الملوك، واقتبس عمر بن الخطاب الدواوين ونظام الخراج إعمالا لمبدأ الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها"(نفس المصدر). على غرار موقف المتأسلمين مما ابتدعته الإنسانية بشكل عام من رفض تام للفكر وقبولها وتوظيفها لكل ما هو تقني، فإن الفكرة الديمقراطية مرفوضة بشكل مطلق بمبرر مخالفتها للإسلام "عقيدة وشرعا" بينما تجوز الاستفادة من الآليات التنظيمية الديمقراطية من أجل "تطوير نظام الشورى". وفي هذه الحالة أيضا، يتعين مراعاة عدم الخروج عن ضوابط الشرع. بهذه النظرة الانتقائية، يتعامل المتأسلمون مع التراث البشري ككل. وهذا ما يثير تساؤلات مشروعة لها ارتباط وثيق بمدى اقتناعهم بالديمقراطية كنظام حكم وابتعادهم عن فكرة الرجوع إلى الخلافة الإسلامية. إذ أن شغلهم الشاغل هو كيفية تطوير الشورى مع اقتباس بعض الإجراءات الديمقراطية ذات الطابع التقني أساسا وليس لها انعكاسات فكرية على نظام الحكم كما يبتغيه المتأسلمون. فماذا عن تصور القرضاوي للديمقراطية؟ بصفته رئيسا للعلماء المتأسلمين وبالنظر إلى تنظيراته وفتاويه التي تجد صدى حقيقيا عند أتباعه ومنها ما أفتاه بشأن الوضع في مصر، سيكون من المفيد الاطلاع على ما خصصه للديمقراطية من تأويل. في مقال له بعنوان "الشورى تتوافق مع جوهر الديمقراطية"، يفرق القرضاوي بين ثلاث اتجاهات ومن بينها : أولا "الرافضون للديمقراطية باسم الإسلام". وهذا "الصنف يرى أن الإسلام والديمقراطية ضدان لا يلتقيان ... على هذا يرفض هؤلاء الديمقراطية رفضا باتًا، وينكرون على مَن ينادي بها أو يدعو إليها في ديارنا، بل قد يتهمونه بالكفر والمروق من الإسلام. فقد صرَّح بعضهم بأن الديمقراطية كفر!"( القرضاوي، الشورى تتوافق مع جوهر الديمقراطية، موقع القرضاوي، 2 يوليوز 2012 ). ثانيا، "القائلون بالديمقراطية بلا قيود ... وهذا هو منطق (التغربيين) الذين نادوا من قديم، بأن نسير مسيرة الغربيين، ونأخذ حضارتهم بخيرها وشرِّها، وحلوها ومرها!"(نفس المصدر). لن نتعرض لهذين التوجهين الذين يخصان التكفيريين الذين لا ناقة لهم ولا جمل بالديمقراطية من جهة والديمقراطيين الذين يتبنون الديمقراطية فكرا وممارسة. أما الاتجاه الثالث، فيتمثل في "الوسطيين المتوازنين" المقصود بهم القرضاوي ومريدوه. وما يميز هؤلاء هو أنهم يمثلون "فئة الوسط التي ترى أن خير ما في الديمقراطية -أو قل: جوهر الديمقراطية- متفق مع جوهر تعاليم الإسلام" (نفس المصدر). فما هو جوهر الديمقراطية؟ يجيب القرضاوي : "جوهر الديمقراطية: أن يختار الناس مَن يحكمهم، ولا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه ويرفضونه يقودهم بعصاه أو سيفه. وأن يكون لديهم من الوسائل: ما يقوِّمون به عوجه، ويردونه إلى الصواب إذا أخطأ الطريق، وأن تكون لديهم القدرة على إنذاره إذا لم يرتدع، ثم عزله بعد ذلك"(نفس المصدر). جميل أن يصرح القرضاوي بهذا والأجمل أن يحرض أتباعه على ممارسته يوميا وأن يمارسه على حالة مرسي لو كان ضميره يسعفه في ذلك. في هذه الفقرة، أشار إلى مجمل التدابير الواجب العمل بها من اختيار حر للحاكم وعدم فرضه على الناس قسرا والحث على تقويم أخطائه وإنذاره وفي الأخير اللجوء إلى العزل إذا اقتضت الضرورة ذلك. وفي ردوده عن منتقدي الديمقراطية، كتب ما يلي : " ولا يعيب الديمقراطية أنها من اجتهادات البشر، فليس كل ما جاء عن البشر مذموما ... وما قيل من أن الديمقراطية تعني حكم الشعب، فليس يعني: أنه في مقابلة حكم الله، بل حكم الشعب في مقابلة حكم الفرد المطلق ... وما قيل: إنه مبدأ مستورد، فالاستيراد في ذاته ليس محظورا ... ونحن نستورد من الديمقراطية: آلياتها وضماناتها، ولا نأخذ كل فلسفتها التي تغلو في تضخيم الفرد على حساب الجماعة، وتبالغ في تقرير الحرية ولو على حساب القِيَم والأخلاق، وتعطي الأكثرية الحق في تغيير كل شيء، حتى الديمقراطية ذاتها!!"(نفس المصدر). كما يظهر، لا حرج للقرضاوي من انتقادات المتأسلمين المتطرفين إلا أنه يفصل بين آليات وضمانات الديمقراطية القابلة للاستيراد وفلسفتها التي لا يجب الأخذ بها. وبالتالي، فقد اصطف بجانب إخوانه المتأسلمين الذين لا قبل لهم بالفكر الديمقراطي. وبعد وضع النقط على الحروف، أراد "إتحافنا" بفهمه الخاص للديمقراطية التي يراها كما يلي : "نحن نريد ديمقراطية المجتمع المسلم، والأمة المسلمة، بحيث تراعي هذه الديمقراطية عقائد هذا المجتمع وقِيمه وأسسه الدِّينية والثقافية والأخلاقية، فهي من الثوابت التي لا تقبل التطور ولا التغيير بالتصويت عليها"(نفس المصدر). وهكذا، "كاع اللي حرث القرضاوي دكو" لكونه شطب بجرة قلم كل ما رآه من ايجابيات في الديمقراطية قابلة للاستنساخ في البلدان العربية التي تحتاج، في نظره، إلى ما يمكن تسميته ب"الديمقراطية الإسلامية" حيث العقائد والقيم والأسس الدينية والثقافية والأخلاقية بمثابة ثوابت لا يمكن المساس بها ولا التفكير في تطويرها وبالأحرى تغييرها. هذه هي "الديمقراطية المنشودة" من طرف منظر الإخوان المسلمين على الصعيد العالمي. إن هذا التصور تفصله مسافات ضوئية بالديمقراطية كما تمارسها البشرية جمعاء في العالم. إذا كان هذا ما يروج له القرضاوي رئيس علماء الإخوان المسلمين أينما كانوا، يصعب تصور اقتناع المتأسلمين بمزايا الديمقراطية ولو على المستويات التقنية الإجرائية فقط كلما تعارضت مع الشريعة. هذه الجولة مكنتنا من التعرف نسبيا على ما يكنه المتأسلمون للديمقراطية في قلوبهم ما دامت عقولهم ترفض رفضا باتا فلسفتها وفكرها ولا تأخذ، وبتحفظ، سوى بآلياتها التنظيمية من أجل تطوير الشورى. فكيف يتبجحون بدون حياء بأنهم يدافعون عن الديمقراطية وهي مستعصية على الهضم بالنسبة لكبير منظريهم "الوسطي المتوازن"؟ فما بالك بالتابعين؟ عن أية شرعية يتحدث المتأسلمون؟ في حالة مصر، يتم التلميح لشرعية صناديق الاقتراع باعتبار أن الرئيس قد انتخب من طرف المصريين مما منحه شرعية شعبية وديمقراطية بالتالي. غير أنهم يطوعون مفهوم الشرعية وفقا لأهوائهم ومصالحهم ويحولونها إلى تفويض شعبي ممنوح للرئيس يغطي الولاية الرئاسية كاملة ولا يمكن وضعه موضوع مساءلة ولا يمكن الطعن وإعادة النظر فيه وإلغائه بالأحرى. هكذا يتصورون الشرعية التي اكتسبها رئيسهم المخلوع أي أنهم يعتبرون أنه سيستمر في رئاسة مصر إلى نهاية ولايته بالرغم من الأخطاء القاتلة التي راكمها أثناء حكمه. وكيفما كانت ضخامتها وخطورتها، ليس بمستطاع الشعب المصري أن يزيله من الحكم ولو قام بمظاهرات تضم من 30 إلى 33 مليون مصري ومصرية وتطالب برحيله وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة. في مثل هذه المناسبات، يرمي المتأسلمون في سلة المهملات بالقيم التي يسوقونها باعتبارهم المدافعين والمحافظين عنها وينسون ويتناسون العرض والحشمة والشريعة والشرع والإيثار والعفة والصلاح والتضحية والسلم ... وبالمقابل، يتشبتون إلى ما لا نهاية بحقهم المزعوم في ممارسة الحكم ضدا على الإرادة الشعبية التي عبرت عن نفسها من خلال المظاهرات والاعتصامات المليونية متجاهلين بذلك أن الإرادة الشعبية هي سليلة الإرادة العامة التي هي بمثابة عقد اجتماعي بين الحكام والمحكومين. وطبقا لهذا العقد، يتم تحديد العلاقات بين الشعوب وبين حكامها. حسب القرضاوي، فإن "أول هذه المبادئ المؤيدة لشرعية الديمقراطية، وحكم الشعوب لنفسها، واختيارها مَن يحكمها ويقودها: أن القرآن الكريم ينكر أبلغ الإنكار، بل يذم أبلغ الذم: الجبابرة الذين يتسلطون على الشعوب، ويحكمونها رغم أنوفها، ويقودونها طوعا أو كرها -بل غالبا ما يقودونها كرها- إلى ما يريدون"(نفس المصدر). ألم يكن الرئيس الإخواني من صنف هؤلاء الجبابرة؟ تم انتخاب مرسي من طرف أتباعه الذين يقدرون بحوالي 5 ملايين من المصوتين وحوالي 8 مليون مصريين آخرين ممن صوتوا لصالحه وضد شفيق مرشح النظام المخلوع أي أن المهمة المصيرية التي كانت مطروحة في تلك الظرفية هي هزم ممثل النظام السابق وعدم تمكينه من العودة إلى الحكم. هذه المهمة تجند لها الجميع من متأسلمين وأقباط ويساريين وعلمانيين ... موضوعيا، احتكمت كل هذه المكونات إلى تعاقد جماعي، ولو كان ضمنيا، يتوجب على الرئيس المنتخب اتخاذه مرجعا في كل مبادراته وقراراته. لكن مرسي لم يكن وفيا لما تعهد به وصار يتصرف كحاكم فردي غير مرتبط بعقد اجتماعي مع الشعب المصري. والأدهى من هذا أنه سن إعلانا دستوريا يليق بحكام الاستبداد الشرقي وعمل على خلق أعداء على جميع الجبهات مما أدى إلى عزلة جماعته وعزلته شخصيا. وفي هذا الباب، سنورد تلخيص عبد الرحمان إبن القرضاوي لما جرى في عهد مرسي : "لقد عاهدنا الرجل ووعدنا بالتوافق على الدستور، ولم يف، وبالتوافق على الوزارة، ولم يف، وبالمشاركة لا المغالبة في حكم البلاد، ولم يف، وبأن يكون رئيسا لكل المصريين، ولم يف، وأهم من كل ذلك أننا عاهدناه على أن يكون رئيس مصر الثورة، ثم رأيناه في عيد الثورة يقول لجهاز الشرطة – الذي عاهدنا على تطهيره ولم يف أيضا – يقول لهم : "أنتم في القلب من ثورة يناير!!!"، فبأي عهود الله تريدنا أن نبقي عليه ؟ لقد تصالح مع الدولة العميقة، ومع الفلول، ومع رجال أعمال مبارك، ومع كل الشرور الكامنة من العهود البائدة، بل حاول أن يوظفها لحسابه، وأن يستميلها لجماعته، وأعان الظالمين على ظلمهم فسلطهم الله عليه"( عبد الرحمان القرضاوي، عفوا أبي الحبيب ... مرسي لا شرعية له، جريدة اليوم السابع، 7 يوليوز 2013 ،http://www1.youm7.com/News.asp?NewsID=1152641&SecID=12). وبالرغم من فداحة الأخطاء المرتكبة، ذكر عبد الرحمان أن عدة جهات قامت باتصالات مع مرسي بغرض إسدائه النصيحة وحمله على تصحيح أخطائه إلا أنه واصل مسيرته الخاطئة بأمر من مرشد جماعته ... ومعلوم أن نجل القرضاوي قد عنون رسالته إلى والده ب"عفوا أبي الحبيب ... مرسي لا شرعية له". وبما أن مرسي قد انضبط إلى أوامر قادته وعمل كل ما في وسعه من أجل أخونة مصر دون إيلاء أي انتباه للمخاطر التي تتهدد حكمه ومصير جماعته بفعل تنامي وتوسع المعارضة لنهج المتأسلمين، فإنه "أصر على إسقاط شرعيته بنفسه" على حد قول ابن القرضاوي بل أصبح عنصرا ينطبق عليه ما يلي : "ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا (وهذا كناية عن عدم قبولها عند الله): رجل أمَّ قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان. ومعنى هذا: أن الإمام في الصلاة يجب أن يكون ممن يحبهم المأمومون، وإذا أحسَّ بغير ذلك: يجب أن يتخلى عن هذه الإمامة، وإلا ارتدت صلاته عليه، أو بقيت معلقة لا تقبل عند الله. فإذا كان هذا في الإمامة الصغرى، فكيف بالإمامة الكبرى! إمامة الأمة في شؤونها كلها، التي تشمل دينها ودنياها؟"(القرضاوي، نفس المصدر). لقد سبق واطلعنا على ما قاله القرضاوي بصدد حديثه عن الديمقراطية بوجوب عزل الحاكم بعد إنذاره وها هو يوصي الحاكم بالتخلي عن الحكم إذا كان المحكومون لا يحبونه. لقد عبر عشرات الملايين من المصريين والمصريات عن رفضهم لحكم مرسي وابهروا العالم قاطبة بذلك الطوفان البشري الذي يردد شعار رحيل مرسي وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة. أليس هذا كافيا لإقناع مرسي بالتخلي عن الحكم بعدما لم يعد محبوبا من طرف الشعب؟ ألم يكن على القرضاوي أن يسدي له هذه النصيحة تطبيقا لما يكتبه ويروجه بدل تحريض المتأسلمين على العنف وسفك الدماء للتمسك بحكم لا شرعي يجوز في حقه تخلي مرسي المتأسلم، إن كان مسلما، بمحض إرادته من الناحية الشرعية ويجوز فيه العزل كذلك من الناحية الديمقراطية حسب تقديره؟ فماذا تبقى لمرسي من شرعية لكي يتجند التنظيم العالمي للمتأسلمين ضد عزل مرسي المهزوز لا شرعيا ولا ديمقراطيا حسب رئيسهم القرضاوي اللهم إلا إذا كان هؤلاء يقولون ما لا يفعلون؟ وبالفعل، لقد تبث أن المتأسلمين يستعملون خطابا مزدوجا عبارة عن خطاب داخلي وخطاب علني معاكس لما يتداولونه فيما بينهم. فإذن، كل المعطيات تشير إلى أن مرسي قد فقد شرعيته وكان مخيرا بين التخلي الطوعي أو العزل وفي كلتا الحالتين المبررات موجودة لكن المتأسلمين لم يراعوا لا مبادىء الشرع الإسلامي ولا المبادىء الديمقراطية وراحوا يدعون إلى العنف من أجل استرداد سلطة لا يستحقونها من كثر ما تعرض له الشعب المصري من ويلات على أيادي المتاجرين بالدين من طينتهم.ا خاتمة من خلال هذه الإطلالة السريعة على بعض تراث المتأسلمين حول الديمقراطية، بدا جليا أنهم ما يزالون بعيدين عن تبنيها ومترددين في معانقة قيمها وهم يصبون إلى امتلاك أدواتها التنظيمية لا غير لتطوير نظام الشورى. كل ما يتفقون عليه هو التصويت والانتخاب والأغلبية والمحاسبة ... أما الجوهر الفكري والفلسفي للديمقراطية المؤسس على الحرية وعلى حقوق المواطنة وحقوق الإنسان ...، فهذا يندرج ضمن المحرمات التي لا يجب الاقتراب منها لأنها تؤدي مباشرة إلى العلمانية ... وعلى ضوء هذا الجزء القليل المتفق عليه والمحاط بسياجات كثيفة من التحفظات لئلا تصاب الشورى بمكروه ايديولوجي، علمنا أن القرضاوي يقر بجواز عزل الحاكم المراكم للخروقات من طرف المحكومين بعد إنذاره استنادا إلى الديمقراطية لكنه لم يمارس فعليا "قناعته الديمقراطية" هاته. كما اتضح من أقوال القرضاوي وابنه أن مرسي لا شرعية له شرعا وكان عليه التخلي عن الحكم من تلقاء نفسه لو تمسك بتعاليم الدين. ومع ذلك، تجاهل القرضاوي ما كتبه وأفتى بالدفاع عن شرعية مزعومة إسوة بإخوانه المتأسلمين إمعانا في المتاجرة في الدين والنفاق والكذب على الناس المغلوبين على أمرهم الذين يرمون بهم للموت من أجل مصالح دنيوية دنيئة لا علاقة لها بالإسلام والمسلمين. ألا تكفي أقوال زعيمهم الروحي القرضاوي وغيره لدحض مزاعم المتأسلمين عامة والمتأسلمين المغاربة خاصة حول الثورة التصحيحية المصرية؟