تم تأسيس جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928 بمصر جوابا على انهيار الخلافة العثمانية. ومنذ ذلك التاريخ وهؤلاء المتأسلمون يباشرون عملهم الدعوي والوعظ والإرشاد مقرونا بالعنف المسلح والاغتيالات في إطار المرحلة الأولى من استراتيجيتهم المسماة ب"البعث الإسلامي" من طرف منظرهم سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق". وقد عمدوا إلى اللجوء إلى تكتيكات عديدة ومختلفة خلال هذه الفترة لم يكن التشبث بالدين والدفاع عنه هو ما يؤطرها إذ اختلط رسمها بالتواطآت مع الحاكمين والعمالة للاستعمار الأنجليزي ضد العثمانيين وممارسة العنف ... حفاظا دوما على تنظيمهم السياسي من الانقراض أو التشتت ... وتفرعت عن الجماعة الأم عدة فروع وتفرعت عنها مجموعة من التنظيمات الأكثر تشددا ذات طابع إقليمي على صعيد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفي تركيا والعالم ... مما أدى إلى خلق التنظيم العالمي للإخوان المسلمين لتنسيق المواقف وبلورة الخطط المرحلية وتوفير الدعم المتبادل ... وتندرج هذه المهام التنظيمية والتعبوية في إطار التحضير للمرحلة الثانية المسماة ب"تسلم قيادة البشرية" بما تعنيه من إرساء دول أو إمبراطورية متأسلمة يدعون أنها ستكون مماثلة لما كان عليه الأمر في عهد الخلفاء الراشدين.ا ولما أتيحت لهم فرصة الوصول إلى السلطة بمحض الصدفة وفي غفلة من الحركات الشعبية التي أطاحت بالرؤساء المستبدين وتم انتخابهم لممارسة الحكم عقب ثورات "الربيع العربي"، أبان المتأسلمون عن نزوعات استبدادية وتسلطية متشابهة في كل البلدان وعن ضعف في تدبير شؤون المواطنين وعن السعي للأخونة بسرعة ... واستطاعوا في زمن قصير أن يعادوا كل فئات المجتمع وأن يحكموا على أنفسهم بالعزلة وبالضعف والتشردم ... ومع مراكمتهم للأخطاء في تدبير شؤون الدولة وإقصاء الجميع والنظر إلى الأمور بنظرة حزبية ضيقة ... خلقوا من دون أن يدرون الظروف المواتية الذاتية والموضوعية لعزلهم من الحكم من طرف شعوبهم. وهذا ما وقع في مصر وما بدت بوادره في تونس ...ا هذه المفارقة الصارخة بين عشرات السنين من العمل الاستقطابي الدؤوب والمضني والمدة الوجيزة في الحكم تسترعي الانتباه وتدعو إلى التوقف عند هذه الظاهرة لمحاولة فهم هذا السقوط المدوي للمتأسلمين في منبعهم ومعقلهم الأصلي والرئيسي والأكبر والأقدم تاريخيا واستشراف آفاق الجماعة المتأسلمة بعد كل ما فقدته من شعبية ومن مصداقية بسبب تأويل خاص للإسلام وتشبث أعمى بالحكم وانكشاف الوجه العدواني المغلف تحت غطاء الدين ...ا وقد اهتزت أركان المتأسلمين في أكثر من بلد في فترات متقاربة. وقع انقلاب أبيض بقطر البلد المحتضن والممول لهم وتمت إقالة رئيس الحكومة ووزير الخارجية السابق ... كما تمت إهانة وضرب وطرد القرضاوي منظر المتأسلمين من قطر ... وعاش النظام في تركيا مظاهرات واعتصامات غير مسبوقة ضد حكم حزب العدالة والتنمية الذي يعتبر النمودج المحتدى به من طرف المتأسلمين قاطبة. مما يعني أن النظام التركي - وإن طال عمره في الحكم – ليس بمأمن من المعارضة الجماهيرية متى حاول أن يفرض تصوره المتخلف للحريات العامة وأراد أن يمس بالتراث العلماني ...ا إلا أن ما أرعب المتأسلمين جميعهم هو ذلك الطوفان البشري الهادر والمنتفض ضد مرسي يوم 30 يونيو 2013 والذي سرع بالإطاحة به وانهيار حكم المرشد ومريديه بسهولة فائقة. وقد أصيبوا بهستيريا جماعية أعمت بصيرتهم أينما وجدوا في كل أرجاء المعمور. وصاروا يطلقون على أنفسهم نعوثا هم منها براء مثل حماة الديمقراطية والصامدين ضد إعصار الانقلاب على الشرعية الديمقراطية ... ناسين أنهم يكفرون الديمقراطية ومن يحذو حذوها. وفي ذات الوقت، كشروا عن أنيابهم عبر تصعيد اللهجة ضد من يخالفهم الرأي بتخوينه وتكفيره والارتماء في أحضان العنف بهدف تدويل القضية مراهنين على تدخل أصدقائهم الأمريكين والغربيين ...ا لقد كان على المتأسلمين سلوك طريق آخر لو احتكموا إلى العقل وتركوا جانبا نظرية المؤامرة التي ابتلوا بها وتسائلوا حول الأسباب الموضوعية التي رمت بهم في وضعية لا يحسدون عليها. وضعية من شأنها أن تساهم في تبخر تراثهم الطويل وغرورهم المتعالي الذي جعلهم "يطمئنون" إلى وهم ينخرهم مفاده أنهم فرضوا هيمنتهم الإيديولوجية على المجتمع وأن الشعوب واثقة في مواقفهم وطهرانيتهم وتدينهم ... ونتيجة لذلك، فإن هذه الشعوب هي دوما بجانبهم مما جعلهم يتباهون بجماهيريتهم وبقدرتهم على التجييش والتعبئة وتهديد من ينافسهم بالكم وبالأغلبية العددية ... كان عليهم أن يفكروا في مغازي انتفاضة غالبية الشعب ضدهم وربما وصل بهم الأمر إلى مراجعة تجربتهم بهدف تصحيح أخطائهم وتغيير نهجهم السابق من أجل المصالحة مع الجماهير وكسب ثقتهم من جديد. هذا ما تتطلبه المرحلة وتفرضه من مسؤوليات على قادة المتأسلمين ومنظريهم بكل تواضع وبدون تضخيم الذات على عكس ما جاء في حديث المهدي عاكف المرشد السابق حين قال : "نحن نبالغ في قوتنا.. لكننا منظمون.. والناس تعتقد أننا حاجة "ضخمة"(1). وهذا يستوجب – كذلك - استحضار العقل والابتعاد عن التحريض وغسل عقول الناس البسطاء وبيع الأوهام لهم.ا وفي هذا الإطار، كشفت تجربة المتأسلمين عن قواسم مشتركة تهم وصولهم وتصورهم للحكم في كل من مصر وتونس والمغرب وإن بدرجات متفاوتة تبعا لاختلاف الظروف في كل بلد على حدة. في مصر، سيطر المتأسلمون على رئاسة الدولة وعلى الحكومة في حين أنهم يتحكمون في الحكومة والمجلس الوطني التأسيسي في تونس بينما يرأسون الحكومة في المغرب ... وسنحاول استعراض أبرزها.ا سرقة ثمار ثورات "الربيع العربي" سواء تعلق الأمر بمصر أو المغرب أو تونس، تميزت مواقف المتأسلمين إما بالعداء لحركات "الربيع العربي" أو التردد في المشاركة فيها والتواطؤ مع النظام أو عدم المشاركة فيها.ا إذا كان المتأسلمون في مصر قد تواطأوا مع النظام بمشاركتهم في الاجتماع الذي دعا إليه عمر سليمان محاولة منه في إضعاف الحركة الجماهيرية ثم عادوا وانتظروا طويلا إلى أن تيقنوا من حتمية سقوط مبارك كما أكد "الحريرى"، وهو مستشار سابق، قائلا أن: "الإخوان المسلمين إنقلبوا على ثورة يناير منذ لقاءهم يوم 4 فبراير مع "عمر سليمان" وكان هدفهم هو الحصول على الشرعية مقابل فض ميدان التحرير وإيقاف مسيرة الثورة"(2)، فإن إخوانهم المغاربة قد اتخذوا رسميا موقف عدم المشاركة في الحراك الشعبي بل أن أمينهم العام بن كيران قد بالغ في التهكم وتمييع حركة 20 فبراير واصفا إياها بجماعة "الطبالة والغياطة" ولا يستحيي منذ ترأسه للحكومة من التهديد بها ضد خصومه. أما في تونس، فأغلبية قيادة حزب النهضة قد كانوا إما معتقلين أو منفيين مثل زعيمهم الغنوشي ولم يلعبوا دورا مهما في ثورة الياسمين. وقد استغل هؤلاء عدم تنظيم الحركات الجماهيرية لقطف ثمار "الربيع العربي".ا وبعد سقوط بنعلي، نظمت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وكان النجاح فيها حليف حزب نهضة الغنوشي أساسا بمعية حزب المؤتمر للمرزوقي وحزب التكتل لبن جعفر الذين حصلوا على الأغلبية وتقاسمت هذه الترويكا السلطة بينها. فعادت رئاسة الدولة للمروزقي ورئاسة المجلس لبن جعفر ورئاسة الحكومة لحزب النهضة. وبعد سقوط مبارك، وباختصار، تم تنظيم انتخابات مجلس الشورى الذي اكتسحه الإخوان وحزب النور بأغلبية ساحقة. وفي الانتخابات الرئاسية، فاز مرسي بأصوات المناهضين لممثل نظام الرئيس المخلوع. ولما تم حل البرلمان والحكومة في المغرب، انتهز حزب بن كيران فرصة الانتخابات التشريعية ليفوز بعدد كبير من المقاعد خولته إمكانية رئاسة الحكومة.ا عدم الوفاء بالوعود المقصود بالوعود هنا هو أولا البرامج الحزبية المتبناة والمروج لها أثناء الحملات الانتخابية وكذا العهود المقدمة للحلفاء قصد الوصول إلى السلطة.ا على صعيد البرامج الحزبية، بدل الاهتمام بتحسين أوضاع المواطنين، راح المتأسلمون يطبقون إملاءات المؤسسات المالية الدولية ويغرقون بلدانهم بالديون وعملوا على تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية عبر الزيادة في أسعار المحروقات وغيرها من الضرائب ... ورموا ببرامجهم في سلة المهملات لا هم لهم بالفساد والاستبداد ولا بالرفع من قيمة السميك ولا بالنمو الاقتصادي بنسبة 7 % ولا بتشغيل مئات الآلاف من المواطنين ...ا على مستوى العهود المعقودة مع أطراف أخرى، يكفي أن نتعرف على ما قاله عبد الرحمان القرضاوي بالنسبة لمرسي، وهو نجل يوسف القرضاوي، في هذا الشأن : "لقد عاهدنا الرجل ووعدنا بالتوافق على الدستور، ولم يف، وبالتوافق على الوزارة، ولم يف، وبالمشاركة لا المغالبة في حكم البلاد، ولم يف، وبأن يكون رئيسا لكل المصريين، ولم يف، وأهم من كل ذلك أننا عاهدناه على أن يكون رئيس مصر الثورة، ثم رأيناه في عيد الثورة يقول لجهاز الشرطة – الذي عاهدنا على تطهيره ولم يف أيضا – يقول لهم : "أنتم في القلب من ثورة يناير!!!"، فبأي عهود الله تريدنا أن نبقي عليه ؟ لقد تصالح مع الدولة العميقة، ومع الفلول، ومع رجال أعمال مبارك، ومع كل الشرور الكامنة من العهود البائدة، بل حاول أن يوظفها لحسابه، وأن يستميلها لجماعته، وأعان الظالمين على ظلمهم فسلطهم الله عليه"(3). هذا فيما يخص مصر.ا في حالة تونس، تم الاتفاق على صياغة الدستور والاستفتاء عليه في ظرف سنة. وقد انقضت المدة المتفق عليها يوم 23 أكتوبر 2012 ومع ذلك ما تزال الهيأة التأسيسية موجودة وتمارس صلاحياتها بعض انقضاء أجلها دون أدنى إحراج وما تزال أحزاب "التروكيا" تعتبر أنها تستمد "شرعيتها" من انتخاباتها.ا تغليب النزعة الحزبية الضيقة والإقصاء بالرغم من تحملهم مسؤولية تدبير الشأن العام مع حلفاء سياسيين آخرين، يتصرف المتأسلمون كما لو أنهم وحدهم الماسكين بزمام الأمور بل تصل بهم الوقاحة – أحيانا – إلى الحديث باسم حزبهم للرد على نواب تحت قبة البرلمان بل إلى الاستهانة بحلفائهم داخل الحكومة مثلا ... أما المعارضة، فلا تستحق سوى الإقصاء لا أقل ولا أكثر فيما الحوار مع الأحزاب والنقابات والجمعيات ... فلا ضرورة له ويجب وضع حد له. يكفي أن تجتمع الأجهزة القيادية للمتأسلمين وترسم الخطط التي تراها مفيدة لحزبها وتفرضها على الأغلبية الحكومية أو غيرها دون أن تلتزم بالتشاور معها أو أن تخبرها بما هي مقدمة عليه لكي تحسب تلك المبادرات لصالح المتأسلمين دون سواهم ... هذه السلوكات موجودة في الحكومة المغربية وفي الحكومة التونسية وفي الرئاسة المصرية بصورة أفضع ما دام مرسي قد فوض صلاحياته الرئاسية لمرشده ...ا بروز النزعة الاستبدادية المثال الأبرز في هذا الإطار هو الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي في شهر بونبر 2012 ومنح فيه لنفسه الصلاحيات كاملة تمكنه من اتخاذ قرارات غير قابلة للطعن من القضاء حتى أي أنه تحول – بين عشية وضحاها – من رئيس منتخب إلى ديكتاتور شمولي بإمكانه القيام بما يشاء كما يشاء وما على الرعية إلا أن تبارك قراراته وأفعاله وأعماله دون تحفظ أو نقد أو ما إلى ذلك من أشكال الطعن والتعبير عن الرفض ... ما يقوم به "التنظيم الأم" في مصر يمكن تأويله باعتباره مكون أصلي في تنظيمات المتأسلمين ... هذا الميل الفطري والسريع للاستبداد بالسلطة يعتبر بهذا المعنى أحد أركان ممارسة الحكم في نظرهم ويعبر عنها بعبارات من شاكلة "الحزم" أو "الهيبة" أو "الاستبداد العادل" وما جاورها من مفردات تبيح التسلط على البلاد والعباد باسم الدين ... وتتفاقم هذه النزعة متى توافرت لتنظيمات المتأسلمين أجنحة عسكرية تنشر الرعب والطاعة والولاء لولي الأمر أحب من أحب وكره من كره ... وهذا موجود في مصر ويراه الجميع في تجمعات أنصار مرسي وفي تونس في ما يسمى ب"روابط حماية الثورة" التابعة للنهضة وقد بدأت بوادر هذا التوجه في المغرب من خلال تأسيس لجن محلية لمحاربة الدعارة بعين اللوح مثلا ...ا السعي إلى أخونة الدولة والمجتمع ما أن تقلد المتأسلمون مناصب المسؤولية حتى بدأوا يخططون لأخونة بلدانهم تحت مسميات عديدة ذات منحى إيديولوجي مثل دفاتر التحملات فيما يخص القطاع السمعي البصري بالمغرب أو زرع كوادرهم وأطر إخوانهم السلفيين الجهاديين في مختلف الإدارات العمومية والمحافظات بما فيها اختراق وزارة الداخلية في تونس ... وقد سارعوا في تنفيذ هذه المهمة إذ اتخذت العملية أبعادا هامة بعد إقالة القادة العسكريين والقضاة والمسؤولين عن الصحف والقنوات التلفزية ... في مصر وبنسبة أقل في تونس التي تولت الجماعات السلفية هذا الدور من خلال الهجوم على القنوات التلفزية وعلى الجامعات ومقرات الصحف ... وكذا في المغرب الذي نظمت فيه المظاهرات ضد المهرجانات السينمائية ويتم تهديد المثقفين والصحفيين والفنانين ... وهذا ما لخصه الناشط الحقوقي أحمد عصيد على الشكل التالي : "مخطط الإسلاميين في المنطقة كلها هو نفسه، نحن نتحدث عن نفس المشروع يحمله أيضاً حزب العدالة والتنمية، وهو الاتجاه إلى استعادة دور الدين في الدولة. الخطة التي دخل بها الحزب لا تختلف عن الخطة التي دخل بها الإسلاميون في تونس ومصر، حيث ركز في البداية على خطاب إصلاحي يتعلق بالجانب الاجتماعي والاقتصادي لكسب الشرعية قبل الشروع في مسلسل أسلمة هادئة"(4). بعد أن توهموا ببسط هيمنتهم على المجتمع رغم ما يحمله خطابهم من مبالغة على هذا الصعيد، لم يتبق لهم سوى إحكام القبضة على دواليب الدولة لاستكمال سيطرتهم على الدولة والمجتمع في آن معا. أما الهدف الاستراتيجي المتوخى من وراء الأخونة المتسرعة، فيبقى مكتوما إلى أن تعلن عنه زلة لسان صادرة عن قيادي تاريخي كما حدث لحمادي الجبالي، رئيس الحكومة السابق لتونس وأمين عام حزب النهضة، أثناء زيارته لمدينة سوسة وإلقائه خطابا ورد فيه ما يلي : "يا إخوانى أنتم الآن أمام لحظة تاريخية، أمام لحظة ربانية فى دورة حضارية جديدة إن شاء الله فى الخلافة الراشدة السادسة إن شاء الله، مسؤولية كبيرة أمامنا والشعب قدم لنا ثقته، ليس لنحكم لكن لنخدمه"(5). لقد صدر عنه هذا الكلام حول الخلافة الراشدة السادسة قبل تشكيل الحكومة ومباشرة بعد انتخابات أعضاء المجلس التأسيسي أي قبل أن يمسكوا بالسلطة. فما بالهم سيفعلون لو استتبت لهم الأمور وتحكموا في البلاد والعباد؟ اعتبار الديمقراطية هي الانتخابات في هذا الصدد، قال مصطفى المعتصم، زعيم البديل الحضاري، حول هذه النقطة ما يلي : "أما الإسلاميون الذين انتقلوا من رفض الديمقراطية باعتبارها كفر لأنها تعطي السيادة للشعب فقد اقتنع الكثير منهم بها كآلية فقط لأنها الطريقة السهلة للوصول إلى السلطة بحكم الزخم الجماهيري الذي يتمتعون به"(6). يستفاد مما سبق أن المتأسلمين كانوا يكفرون الديمقراطية وكذا الأحزاب ... ومنهم من انتقل من موقع التكفير إلى موقف تبني الانتخابات من أجل الوصول للسلطة بطريقة سهلة مراهنين على قوتهم العددية. ومنهم من لم ينتقل قيد أنملة من موقعه الأصلي ولا يرى أي جدوى أو منفعة في الديمقراطية كمثل المدعو الكتاني الذي صرح بأن "الديمقراطية نظام علماني لا يصلح للمسلمين". ومنهم من خطى أو تخطى مرحلة الكفر ولا يزال يستهزىء بها كما هو حال المرشد المهدي عاكف الذي قال : "كلمة الديمقراطية بتاعتكم دي.. زي ديمقراطية بوش.. نصب.. نصب"(7). على كل حال، لقد استطاع أكبر "المجتهدين" المتأسلمين الاقتناع بالديمقراطية كآلية للوصول إلى الحكم على حد قول المعتصم نظرا لجماهيرية تنظيماتهم. وقد اختبروا هذه الفرضية بعد الحراك الشعبي سنة 2011 في مصر وتونس والمغرب، فأتت أكلها وتربعوا على كراسي الحكم. وهذا ما أكده الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي في الحالة المصرية بقوله : "فقد أحسوا فى أنفسهم القدرة على كسب الانتخابات، لأنهم يملكون ما لا يملكه غيرهم ويستخدمون ما لا تستخدمه القوى الأخرى، يملكون التنظيم القوي، ويخلطون الدين بالسياسة، ويستخدمون المساجد فى الدعاية والتجنيد ويتوسلون بالخدمات، التى يرشون بها الناخبين، ويمولونها من جيوبهم وجيوب غيرهم، وقد دخلوا الانتخابات مرات فى عهد النظام الساقط وحققوا فيها انتصارات"(8). وكل هذا ينطبق على تجارب المتأسلمين أينما كانوا وإن كان هذا الرهان قد برهن عن محدوديته في فترة وجيزة. لكن ما لا يطيق المتأسلمون استيعابه هو القيم والمبادىء والأسس الفلسفية للديمقراطية بما هي حكم الشعب الذي يتناقض مطلقا في نظرهم مع الشريعة وحكم الله ...ا عدم التخلي عن السلطة تتعامل فئة من المتأسلمين مع الديمقراطية باعتبارها تاكتيك للوصول إلى السلطة وكذا الحصول على الشرعية الديمقراطية التي ستستعملها في غير موضعها لا من ناحية القانون الوضعي ولا من ناحية الشرع من أجل رفعها في وجه كل من احتج و تظاهر أو اعتصم ضد الحاكمين منهم مطالبا بتخليهم عن السلطة بسبب أخطائهم الفادحة ... إذاك، وباسم الشرعية، يعمد المتأسلمون إلى شرعنة بقاءهم في الحكم بصفة لا قانونية ولو تطلب ذلك معاداة غالبية الشعب وسفك دماء الأبرياء ... ولعل الأحداث الجارية في مصر وتونس غنية من حيث الدلالات في هذا الموضوع.ا في مصر، لا يزال المتأسلمون لا يريدون الاعتراف بهزيمتهم أمام الشعب الذي صوت لصالح رئيسهم والذي قرر أن يسحب منه الشرعية التي منحها إياه معبرا عن ذلك بالملموس عبر نزول عشرات الملايين من المواطنين إلى شوارع مصر في 30 يونيو و26 يوليوز 2013. ولم يدخروا أي جهد لخلق شروط الحرب الأهلية لتدويل القضية إيذانا بالتدخل الخارجي ضد الشعب المصري الذي أطاح بهم، وذلك دفاعا عن شرعية مفترى عليها.ا نفس الشيء بدأ يتردد على لسان قادة النهضة بتونس بصيغ مشابهة مؤداها أنهم يمتلكون شرعية لا تنقضي إلا بالانتخابات المقبلة وهم يعرفون تمام المعرفة أن الأجل المتفق عليه لانتهاء أشغال المجلس الوطني التأسيسي قد حدد في سنة واحدة تنقضي يوم 23 أكتوبر 2013 . وها قد مضت عدة أشهر عن ذلك التاريخ ولا يزال قائما ويتمتع بالشرعية من وجهة نظر الترويكا. وبما أن المجلس هو الذي أنيطت به مهام صياغة مشروع الدستور واختيار اللجنة المكلفة بالانتخابات، فإنه يلعب دورا مصيريا بالنسبة للنهضة، وحلفائها أيضا، لفبركة دستور على مقاسها والتحكم في مجريات الاستحقاقات المقبلة علما بأن استطلاعا للرأي أنجز أخيرا من طرف شركة بريطانية بطلب من النهضة قد أبان عن تدني شعبية المتأسلمين كثيرا إذ وصلت إلى نسبة 12 % تقريبا. لذلك، تحدث الغنوشي عن المجلس التأسيسي بكونه "خط أحمر" لا يجوز الاقتراب منه أو المساس به لأنه ببساطة "أصل الشرعية وما عدا ذلك مفتوح للتوافق"(9). إلا أن ما اعتبره قابلا للتوافق هو كذلك خاضع لشروط تمليها النهضة دائما بحكم تمثيليتها الأهم في المجلس ومنها تمسكها برئاسة حكومة الوحدة الوطنية المطروحة من ضمن نقط جدول الأعمال في تونس لتجاوز الأزمة الحالية.ا هكذا يتم التلاعب بالشرعية وتوظيفها بشكل فظيع وفج كيفما كانت نوعيتها ومتانتها القانونية. سواء تعلق الأمر بمصر أو تونس، فإن الشرعية المتغنى بها مهزوزة إلى أبعد الحدود بعد أن انقضى زمنها في الحالة التونسية وبعد أن قرر الشعب المصري عزل الرئيس. هذه التوضيحات لا شأن للمتأسلمين بها ولا يبالون بها ولا يريدون سماعها كل ما هناك أنهم وصلوا إلى السلطة ويريدون تأبيد وجودهم بها ضدا على الشعب وعلى القانون ... وبكل الوسائل الشرعية واللاشرعية ...ا الكشف عن الوجه العدواني للتنظيم من المعروف أن تنظيم الإخوان المسلمين – منذ تأسيسه - يتكون من جناح دعوي ومن جناح عسكري يسمى "التنظيم السري" الذي يقوم بالعمليات الإرهابية والاغتيالات والاختطافات ... ملف المتأسلمين في مصر غني وحافل بهذه العمليات التي استهدفت كبار المسؤولين بمن فيهم الرئيس جمال عبد الناصر ... ولم تتوقف الاختطافات والتعذيب والقتل والهجومات على المرافق الحساسة للدولة إلى الآن كما يعاين الجميع عبر القنوات العالمية الحصص التدريبية المتكررة لأنصار الرئيس المعزول ... نهجت النهضة نفس الأساليب في عهد بورقيبة وبن علي وها هي حاليا تستعين ب"روابط حماية الثورة" وبالتهديدات واغتيالات اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وغيرهم ... لفرض سلطتها بالقوة على التونسيين ... المتأسلمون المغاربة صاروا على نفس النهج واغتالوا اليساري الفذ عمر بن جلون وعدد من الطلبة من بينهم بنعيسى آيت الجيد ... ولا يزالون يكفرون ويهددون المناضلين اليساريين والمثقفين ...ا الخطير في الأمر أنه كلما تزايدت الانتقادات والاحتجاجات ضد حكم المتأسلمين إلا وكشر هؤلاء عن أنيابهم ولجأوا إلى خطاب التهديد بشكل مكشوف.ا الأمة الإسلامية أرحب من الوطن كلنا يعلم أن المتأسلمين عبر العالم منضوون تحت لواء التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي يصبون من وراءه إلى استعادة أمجاد الإمبراطورية الإسلامية وأنهم ينتمون – في قرارة أنفسهم - إلى الأمة الإسلامية وليس إلى الأوطان. وهناك من يغالي في هذا الطرح إلى حدود نكران الانتماء للوطن. وهذا حال المهدي عاكف صاحب القولة الشهيرة : "طظ في مصر وأبو مصر..واللي في مصر"(10). تم تأويل هذه الجملة على أنها تعبير عن اللاوطنية بالنظر إلى أن المرشد السابق لا تهمه مصر بقدر ما تهمه الأمة الإسلامية خصوصا أنه أضاف شيئا جديدا وهو أن "الجنسية هي الإسلام.. ويا ريت مسلمو ماليزيا يحكمونا!"(11). هنا انكشف أمر المرشد ومتأسلميه الذين يعلنون جهارا أن جنسيتهم هي الإسلام وليست الجنسية المصرية أو التونسية أو المغربية ... بل أنهم راضون على حكمهم من طرف متأسلمين أخرين بغض النظر عن البلد الذي يستقرون فيه ... إن كان المهدي عاكف قد عبر عما يخالجه بمنتهى الصراحة، هناك صنف ثان يشير إلى الموضوع عن طريق التلميحات مثل ما صرح به المدعو الريسوني بكونه يجد راحته في السعودية وقطر وتركيا أكثر من المغرب ...ا خاتمة كانت الأشهر القليلة التي قضاها المتأسلمون في الحكم بمثابة المرآة الكاشفة لعيوب وأمراض تنظيماتهم المستورة منذ زمن طويل والتي أضحت مرئية يعرفها الخاص والعام. في غضون بضعة أشهر، استطاع المتأسلمون أن يقروا بكل ما لديهم من أسرار ومحظورات ومسلكيات منافية للدين مثل الكذب والمتاجرة بالدين لأغراض سياسية صرفة وعدم الوفاء بالوعود والظهور بوجوه عدة والافتقار إلى مشروع مجتمعي وبرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي للحكم والخصاص في الأطر القادرة على تسيير الشأن العام وعقد تحالفات مع الولايات المتحدة الأمريكية أو الشيطان إن اقتضى الأمر ذلك من أجل السلطة ... بالإضافة إلى ما تم ذكره من أعراض سياسية وتنظيمية تطال التجارب المصرية والمغربية والتونسية على السواء.ا الآن، وبعد ما وقع في مصر ويقع في تونس، لم يعد المواطنون بحاجة إلى معرفة أسرار المتأسلمين ومدى استغلالهم للدين وللأطفال وللنساء كدروع بشرية وتهييج الشباب للرمي بهم إلى الموت وتعذيب وقتل وتهديد من يخالفهم الرأي ... لقد أرغم المتأسلمون على إزالة أقنعتهم المزيفة التي طالما استخدموها للإيقاع بالمواطنين وغسل دماغهم ... وباتوا ملزمين بممارسة السياسية بشفافية بعدما تم الكشف عن المستور وظهروا بمظهر الفاعلين السياسيين العدوانيين في كل لحظة وحين كلما لقي تدبيرهم للشؤون العامة عدم رضى الجماهير الشعبية المطالبة برحيلهم عن الحكم ... ولعل تخليهم عن السلطة سيبعدهم عما قاله مرشدهم مصطفى مشهور : "لن نتخلى عن استعادة الخلافة المفقودة"(12). لذلك تراهم يعدون العدة عسكريا لبقائهم في الحكم عند الضرورة بمجرد الوصول إليه في الوقت يتطلب فيه الأمر، موضوعيا، مراجعة مواقفهم للانخراط الفعلي في العمل السياسي واحترام قواعد اللعبة الديمقراطية وعدم استغلالها كمطية للوصول إلى السلطة فقط.ا الهوامش http://e5wankazbon.blogspot.com/ 1 - أ - 2 أمينة بكر، سياسيون: تاريخ الإخوان "أسود"..ووصمة عار على مصر، بتاريخ 18 أبريل 2013 ،http://new.elfagr.org/Detail.aspx?secid=61&nwsId=325333&vid=2. ع - 3 عبد الرحمان القرضاوي، عفوا أبي الحبيب ... مرسي لا شرعية له، جريدة اليوم السابع، 7 يوليوز 2013 ، http://www1.youm7.com/News.asp?NewsID=1152641&SecID=12. http://www.al-akhbar.com/node/188258 4 - http://forum.aldwly.com/t77349.html 5 - ل - 6 لكم، مصطفى المعتصم، ضرورة إعادة توجيه البوصلة، 1 غشت 2013 .ا http://e5wankazbon.blogspot.com/ 7- أ - 8 أحمد عبد المعطي حجازي، سلسلة من الأكاذيب، المصري اليوم، 1 غشت 2013 س - 9 سارة حسين، الغنوشي : حل المجلس الوطني التأسيسي "خط أحمر"، جريدة التحرير بتاريخ 2 غشت 2013 .ا http://e5wankazbon.blogspot.com/- 10. http://e5wankazbon.blogspot.com/- 11. http://www.almasryalyoum.com/node/327964 - 124