الكاتب السوري مازن كم الماز كان المجتمع العربي "الجاهلي" قد بدأ عملية التفكيك المؤلمة لحالة الحرية البدائية المتمثلة في الديمقراطية العشائرية, أي غياب سلطة مركزية سياسية أو فكرية أو دينية .. بدأت التجارة تزدهر في الحجاز و غيره, و بدأت الإرهاصات الأولى لإنتاج "وحدة" دينية سياسية تقوم على مركز واحد, دين واحد, ما سيصبح فيما بعد الدولة العربية القروسطية .. لكن تدمير القيم العشائرية الديمقراطية لصالح فكرة المركز تلك لم يمر دون مقاومة, كان أبطال تلك المقاومة هم أولئك الصعاليك, أول الثوار العرب المعروفين في التاريخ .. ظهرت تلك الثورة تماما عند بداية التاريخ المكتوب لشبه الجزيرة العربية, ينسب أدب الصعاليك الشفهي إلى نفس لحظة ظهور الأدب الكلاسيكي العربي المكتوب أو "المعلقات", أي أن ثورتهم تعود إلى تلك اللحظة الفارقة, الفاصلة بين التاريخ الأسطوري الشفهي و التاريخ المكتوب .. النزوع لأسطرة تلك الثورة و أصحابها واضحة تماما في العديد من التفاصيل التي سجلها المؤرخون عنها فيما بعد, حتى الأسماء سخرت لغرض بناء الأسطورة, اسم تأبط شرا مثلا, و أيضا اسم أحد إخوته "لا بواكي له" .. كأحد التفاصيل المهمة جدا من ذلك التاريخ الأسطوري الشفهي سيعيش هؤلاء الثوار طويلا كجزء من الذاكرة الشعبية الجمعية و الملحمية: أعدى من الشنفرى, أعدى من تأبط شرا, ألص من شضاض .. يمكن حتى رصد بعض التطورات في القصة الأسطورية عن أولئك الثوريين الأوائل يشبه التطور الذي طرأ على قصة نظيرهم الانكليزي روبن هود .. يذكر الباحثون أن روبن هود كان رجلا عاميا في النسخ الأولى من تلك القصة, قبل أن يصبح أرستقراطيا في النسخ المتأخرة جرده من ثروته حاكم محلي فاسد, حتى أن بعض النسخ المتأخرة نسبته إلى أنصار الملك الشرعي لانكلترا: ريتشارد قلب الأسد, و تجعل خصمه هو الأخ السيء الفاسد لذلك الملك .. يمكن تسجيل مثل هذا "التعديل" أيضا في أسطورة صعاليكنا العرب .. حيث يكاد يكون اسم عروة بن الورد شاذا في تلك القائمة من الصعاليك العرب, تقول الأسطورة أن عروة كان من السادة, كان سيدا في قومه, إنه الوحيد بين الصعاليك الذي لا ترافق اسمه تلك اللازمة التي ترافق أسماء بقية الصعاليك, "و كان من الخلعاء الذين تبرأت منهم قبائلهم" .. عروة هنا يبدو مقحما على تلك الثورة, التي تصبح بوجوده أكثر أرستقراطية, و أقل عداءا تجاه النظام الجديد الناشئ خاصة مع اعتباره "أبا" لهذه الثورة أو الظاهرة, "سيدا" لها بمعنى من المعاني .. خلافا لثورة تأبط شرا و الشنفرى و بقية الصعاليك, لم يكن عروة ثائرا بنفس المعنى, لم يخرج عروة على النظام الجديد الذي أخذ يتشكل بالفعل على أنقاض النظام العشائري الديمقراطي, تتوقف حدود ثورته على السرقة من الأغنياء لإطعام الفقراء الجوعى, خاصة أن الأسطورة تزعم أنه كان يسرق فقط الأغنياء المشهورين بالبخل, لا "السادة الشرفاء" .. مع ذلك الأكيد أن تلك الثورة جرت بالفعل, بغض النظر عن دقة كل التفاصيل التاريخية عنها .. و أن أهم تفاصيلها هي احتراف الصعاليك للإغارة على أموال الأغنياء الجدد, و حياتهم على هامش المجتمع خارج قبائلهم, رفضهم للقيم الجديدة التي جاءت مع المال و التجارة و مع ظهور الانقسام بين أغنياء و فقراء .. بمعنى من المعاني يمكن اعتبار الصعاليك هم الأب الفعلي الروحي لثورة الخوارج على الدولة العربية القروسطية بما في ذلك تفسيرها اللاهوتي لسلطتها المطلقة, و ليس ذا الخويصرة كما تؤكد كتب التاريخ, إنها نفس المقاومة البدوية لانهيار عالمها القائم على المساواة و الديمقراطية .. الفكرة الرئيسية في شعر الصعاليك التي تتمحور حولها ثورتهم لخصها أبو خداش الهذلي في قوله مخافة أن أحيا برغم و ذلة و للموت خير من حياة على رغم أحدهم و هو السليك بن السلكة سيصوغ ذات الفكرة على طريقته "اللهم إني لو كنت ضعيفا كنت عبدا, و لو كنت امرأة أمة, اللهم إني أعوذ بك من الخيبة, أما الهيبة فلا هيبة": الخيبة هي وحدها ما يقدمها هذا المجتمع الجديد لأفراده, و هي تعني أنك إن كنت ضعيفا فستكون عبدا أو أمة فقط .. بعده بقرون سيقول فيلسوف هو نيتشه أن حرية الإنسان في المجتمعات القائمة, لا تنتهي فعليا عندما تبدأ حرية الآخرين, بل عندما تنتهي قوته, أن العبد عبد ليس فقط لأن هناك سيد أو حراس, بل أيضا لأنه خائف أو جبان ( لأنه يفضل الحياة على رغم على الموت ) .. صحيح تماما أن هذا واقع لم يخلقه لا نيتشه و لا الصعاليك, لكن هؤلاء قبلوه مع ذلك دون تردد, دون خوف, و قرروا أن يعيشوا حريتهم على حد السيف, فأصبحوا جزءا من الواقع – الأسطورة – الثورة.ا